فوائد قيمة من كتاب الداء والدواء لابن القيم (1)

الكاتب: فريق اقرأ فكرةتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
نبذة عن المقال: درر ثمينة وفوائد قيمة ومعاني عظيمة مقتبسة من كتاب الداء والدواء لابن قيم الجوزية الجزء الأول.
فوائد قيمة من كتاب الداء والدواء لابن القيم

كُتُب العلماء وآثارهم لا تغني بأي شكل من الأشكال عن كلام الله جلّ في علاه وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، ولكن لا شكّ في أنها تساعد على تدبر كتاب الله وفهم سنة نبيه بشكل أفضل، فتقرب لنا البعيد وتصحح لنا المغلوط وتوضح لنا المبهوم وتضعنا على الطريق القويم والصراط المستقيم.

وهنا أقدّم لكم المجموعة الأولى من الاقتباسات الجميلة والدرر الثمينة والكلمات القيمة المستقاة من كتاب "الداء والدواء" للإمام الفاضل شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية رحمه الله، ولم اقم باختصارها بشكل يخل بالمعنى ويزيل عنها الجمال والروعة ولم أقتبسها طويلة أيضاً فيمل منها القارئ، وإنما جمعتها واقتبستها موجزة قصيرة غنية بالمعاني العظيمة.

فلنبدأ بسم الله وعلى بركة الله

 

ملاحظة هامة

تم كتابة عناوين للاقتباسات والفقرات المأخوذة من الكتاب من قبلنا، وهي ليست من الكتاب وليست من تأليف الإمام ابن قيم الجوزية. -رسالة خطأ بعنوان-


 

من أسباب عدم إجابة الدعاء

الدعاء، من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره، إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا فإنّ السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا، وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، والظلم، ورَين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها.

كما في صحيح الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم "ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أنّ الله لا يقبل دعاءً مِن قلبٍ غافلٍ لاه". 


من الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه

من الآفات التي تمنع ترتُّبَ أثرِ الدعاء عليه: أن يستعجل العبد، ويستبطىء الإجابة، فيستحسرَ، ويدَعَ الدعاء. وهو بمنزلة مَن بذر بَذرًا، أو غرس غِراسًا، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلمّا استبطأ كمالَه وادراكَه، تركه وأهمله!

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجَلْ، يقول: دعوتُ، فلم يُستجَبْ لي".


من أهم أسباب قبول الدعاء

إذا جمع الدعاءُ حضورَ القلب وجمعيتَه بكلّيته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإِمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم؛ وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الربّ، وذلاًّ له، وتضرّعًا ورِقّةً؛ واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنّى بالصلاة على محمَّد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله، وألحّ عليه في المسألة، وتملّقه، ودعاه رغبة ورهبة، وتوسّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدّم بين يدي دعائه صدقة = فإنّ هذا الدعاء لا يكاد يُرَدّ أبدًا، ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم.


السر في قبول الدعاء

كثيرًا ما تجد أدعيةً دعا بها قوم، فأُسْتُجِيبَ لهم، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورةُ صاحبه، وإقباله على الله، أو حسنةٌ تقدمت منه جعل الله سبحانه إجابةَ دعوته شكرًا لحسنته، أو صادف وقتَ إجابة ونحو ذلك، فأجيبت دعوته. فيظن الظانّ أن السرّ في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجردًا عن تلك الأمور التي قارنَتْه من ذلك الداعي.

ومن هذا أنّه قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب، فيظنّ الجاهل أنّ السرّ للقبر، ولم يعلم أنّ السرّ للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله. فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله كان أفضل وأحبّ إلى الله.


الأسباب الثلاثة لعدم قبول الدعاء

الأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحدّه فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو. ومتى تخلّف واحد من هذه الثلاثة تخلّف التأثير. فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَمَّ مانع من الإجابة، لم يحصل الأثر.


العلاقة بين القدر والدعاء

أن المقدور قُدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء. فلم يُقَدر مجردًا عن سببه، ولكن قُدر بسببه. فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور. وهذا كما قُدر الشبع والريّ بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه. وكذلك قُدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال.

وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب. فإذا قُدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال! وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب.

ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلمَ الأمةِ بالله ورسوله، وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستنصر به على عدوه، وكان أعظم جنديه، وكان يقول للصحابة: لستم تُنصَرون بكثرة، وإنما تُنصَرون من السماء. وكان يقول: إنّي لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن همَّ الدعاء. فإذا أُلهِمتُ الدعاءَ فإنّ الإجابة معه.

 

استجلاب نعم الله بطاعته

ما استُجلِبتْ  نِعمُ الله واستُدفِعتْ نِقَمُه بمثل طاعته والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه. وقد رتّب الله سبحانه حصولَ الخيرات في الدنيا والآخرة وحصولَ الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال، ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبّب على السبب.

 

دفع القدر بالقدر

الفقيهُ كلُّ الفقيه الذي يردّ القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكن لإنسانٍ أن يعيشَ إلا بذلك، فإنّ الجوع والعطش والبرد وأنول المخاوف والمحاذير هي من القدر، والخلقُ كلّهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر.


مفارقة عجيبة

كيف يجتمع في قلب العبد تيقُّنُه بأنّه ملاقٍ الله، وأنّ الله يسمع كلامه، ويرى مكانه، ويعلم سرّه وعلانيته، ولا يخفى عليه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه ومسؤول عن كل ما عمل، وهو مقيم على مساخطه، مضيّع لأوامره، معطّل لحقوقه.

 

استدراج الله العبد بالنعم

ربما اتكل بعض المغترّين على ما يرى من نعَم الله عليه في الدنيا، وأنه لا يغيَّر به، ويظنّ أنّ ذلك من محبة الله له، وأنّه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك، وهذا من الغرور.

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتَ الله عَزَّ وَجَلَّ يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحِبّ، فإنما هو استدراج" . ثم تلا قوله عز وجل { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) } [الأنعام: 44].

وقال بعض السلف: إذا رأيت الله يتابع نعمَه عليك، وأنت مقيم على معاصيه، فاحذره؛ فإنما هو استدراج يستدرجك به.

 

معنى آخر للنعمة والبلاء

{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا } [الفجر: 15 - 17]

أي: ليس كلُّ من نعّمتُه ووسّعتُ عليه رزقَه أكون قد أكرمتُه، ولا كلُّ من ابتليتُه وضيّقت عليه رزقه أكون قد أهنتُه. بل أبْتَلِي هذا بالنعمة، وأَكْرِمُ هذا بالابتلاء.

 

تأمل الإنسان في نفسه

إذا تأمل الإنسان حاله من مبدأ كونه نطفة إلى حين كماله واستوائه، تبيّن له أنّ من عني به هذه العناية، ونَقَله إلى هذه الأحوال، وصرّفه في هذه الأطوار، لا يليق به أن يهمله ويتركه سدًى، لا يأمره ولا ينهاه، ولا يعرّفه حقوقَه عليه، ولا يثيبه ولا يعاقبه.

ولو تأمل العبد حقّ التأمل لكان كلّ ما يبصره وما لا يبصره دليلًا له على التوحيد والنبوة والمعاد وأن القرآن كلامه.

 

حسن الظن بالله

أنّ حسن الظن إن حمل على العمل، وحثَّ عليه، وساق إليه، فهو صحيح. وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي، فهو غرور.

وحسن الظن هو الرجاء. فمن كان رجاؤه حاديًا له على الطاعة، زاجرًا له عن المعصية، فهو رجاء صحيح. ومن كانت بطالته رجاءً، ورجاؤه بطالةً وتفريطًا، فهو المغرور.

ولو أن رجلًا له أرض يؤمّل أن يعود عليه من مُغَلِّها ما ينفعه فأهملها، ولم يبذُرها، ولم يحرثها، وأحسن ظنه بأنه يأتي من مغلّها ما يأتي مَن حَرَث، وبَذَر، وسقَى، وتعاهَد الأرضَ، لعدَّه الناس من أسفه السفهاء.

وكذلك لو حسّن ظنَّه وقوّى رجاءَه بأن يجيئه ولد من غير جماع، أو يصير أعلمَ أهل زمانه من غير طلبٍ للعلم وحرص تامّ عليه، وأمثال ذلك.

فكذلك من حسّن ظنه وقوّى رجاءه في الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم، من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

وقد قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ } [البقرة: 218] فتأمَّلْ كيف جعل رجاءَهم إتيانَهم بهذه الطاعات!

 

الرجاء يوجب الأخذ بالأسباب

إنّ الرَّجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه، وقدَره، وثوابه وكرامته؛ فيأتي العبد بها، ثم يحسن ظنّه بربه، ويرجوه أن لا يكِلَه إليها، وأن يجعلها موصلةً إلى ما ينفعه، ويصرف ما يعارضها، ويبطل أثرها.

 

الفرق بين الرجاء والأماني

إنّ من رجا شيئًا استلزم رجاؤه أمورًا:

أحدها: محبة ما يرجوه. الثاني: خوفه من فواته. الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.

وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك، فهو من باب الأماني! والرجاء شيء، والأماني شيء آخر. فكلُّ راجٍ خائفٌ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرَعَ السيرَ مخافةَ الفوات.

وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم "مَن خاف أدلَجَ، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إنّ سلعة الله الجنّة".


الإحسان والخوف ... الإساءة والأمن

الله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن. ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف. ونحن جمعنا بين التقصير- بل التفريط- والأمن!


الذنوب تضرّ ولابدّ

أنّ الذنوب تضرّ ولابدّ، وأنّ ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر. وهل في الدنيا والآخرة شرّ وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟

فما الذي أخرج الأبوين من الجنّة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرَدَه ولعَنَه، ومسَخَ ظاهره وباطنه، فجُعِلَتْ صورتُه أقبح صورة وأشنعها؛ وباطنُه أقبح من صورته وأشنع؟

وما الذي غرّق أهل الأرض كلّهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلّط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض، كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمّرت ما مرّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابّهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحةَ حتى قطّعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟

 

ما هو أعظم من الذنب

عن ابن عباس أنه قال: يا صاحب الذنب لا تأمَنْ سوءَ عاقبته، ولَما يتبع الذنبَ أعظمُ من الذنب إذا عملته: قلّةُ حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال، وأنت على الذنب، أعظمُ من الذنب. وضحِكُكَ، وأنت لا تدري ما الله صانع بك، أعظمُ من الذنب. وفرحُك بالذنب إذا ظفرت به أعظمُ من الذنب. وحزنُك على الذنب إذا فاتك أعظمُ من الذنب. وخوفُك من الريح إذا حرّكَتْ سِترَ بابك، وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك، أعظمُ من الذنب.

 

العلم نور والمعصية تطفئه

من الآثار القبيحة المذمومة والمضرة بالقلب والبدن والدنيا والآخرة للمعاصي والذنوب حرمان العلم، فإنّ العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.

ولمّا جلس الشافعيّ بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقّد ذكائه، وكمال فهمه؛ فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية.

وقال الشافعي: شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي ... فأرشدَني إلى ترك المعاصي

وقال: اعلَمْ بأنَّ العلمَ فضلٌ ... وفضلُ الله لا يؤتاه عاصِ

 

الحسنة تجر الحسنة والمعصية تجر المعصية

أنّ المعاصي تزرع أمثالَها ويولّد بعضها بعضًا حتى يعزّ على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: إنّ من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها، وإنّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها. فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جانبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها قالت الثانية كذلك، وهلم جرًّا، فتضاعف الربح، وتزايدت الحسنات. وكذلك جانب السيئات أيضًا، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة.

فلو عطّل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحسّ من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء، حتىّ يعاودها، فتسكن نفسه، وتقرّ عينه. ولو عطّل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسُه، وضاق صدره، وأعيَتْ عليه مذاهبُه، حتى يعاودها. حتى إنّ كثيرًا من الفسّاق لَيواقع المعصية من غير لذة يجدها، ولا داعية إليها، إلا لما وجد من الألم بمفارقتها.


التعوّد على الطاعات والمعاصي

لايزال العبد يعاني الطاعة، ويألفها، ويحبّها، ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه برحمته عليه الملائكةَ تؤزُّه إليها أزًّا، وتحرّضه عليها، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها.

ولا يزال يألف المعاصي، ويحبّها، ويؤثرها، حتّى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزّه إليها أزًّا.

فالأول قوّى جندَ الطاعة بالمدد، فصاروا من أكبر أعوانه. وهذا قوّى جندَ المعصية بالمدد، فكانوا أعوانًا عليه.

 

الجهر بالمعصية

من الآثار القبيحة المذمومة والمضرة بالقلب والبدن والدنيا والآخرة للمعاصي والذنوب أنه ينسلخ من القلب استقباحُها، فتصير له عادةً، فلا يَستقبح من نفسه رؤيةَ الناس له، ولا كلامَهم فيه.

وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التهتّك وتمام اللذة، حتّى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدّث بها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان عملتُ كذا وكذا!

وهذا الضرب من الناس لا يُعافَون، وتسدّ عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم "كل أمتي معافىً إلا المجاهرين. وإنّ من الإجهار أن يستر الله على العبد، ثم يُصبِح يفضَح نفسه، ويقول: يا فلان عملتُ يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيهتك نفسَه، وقد بات يستره ربه".


المعصية تجلب الهوان

إن المعصية سبب لهوانِ العبد على ربه، وسقوطِه من عينه. قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصَوه، ولو عزّوا عليه لَعَصَمهم.

وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]. وإنْ عظّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرّهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.


المعصية تورث الذل

إن المعصية تورث الذلَّ، ولابدّ؛ فإنّ العزّ كلّ العزّ في طاعة الله تعالى. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] أي: فليطلبها بطاعة الله، فإنّه لا يجدها إلا في طاعته.

 

المعاصي تفسد العقل

إن المعاصي تفسد العقل. فإِنّ للعقل نورًا، والمعصية تطفئ نور العقل، ولابدَّ؛ وإذا طفِئ نورُه ضعُفَ ونقَصَ.

وقال بعض السلف: ما عصى اللهَ أحدٌ حتّى يغيبَ عقله.

وهذا ظاهر، فإنّه لو حضره عقله لَحجَزه عن المعصية، وهو في قبضة الربّ تعالى وتحت قهره، وهو مطّلع عليه، وفي داره وعلى بساطه، وملائكتُه شهودٌ عليه ناظرون إليه، وواعظ القرآن ينهاه، وواعظ الإيمان ينهاه، وواعظ الموت ينهاه، وواعظ النار ينهاه، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعافُ أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، فهل يُقدِم على الاستهانة بذلك كلَّه والاستخفافِ به ذو عقل سليم؟

 

الران والطبع على القلب

إن الذنوب إذا تكاثرت طُبعَ على قلب صاحبها، فكان من الغافلين؛ كما قال بعض السلف في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14] قال: هو الذنب بعد الذنب.

وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب.

وقال غيره: لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم.

وأصل هذا أنّ القلب يصدأ من المعصية، فإن زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف. فإن حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذ يتولاّه عدوّه، ويسوقه حيث أراد.


أثر الذنوب على ما حولنا

من آثار الذنوب والمعاصي: أنها تُحدِث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه، والهواء، والزروع، والثمار، والمساكن.

قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].

ومن تأثير معاصي الله في الأرض: ما يحِل بها من الخسف، والزلازل، ومَحْقِ بركتِها . وقد مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ديار ثمود، فمنعهم من دخول ديارهم، ومن شرب مياههم، ومن الاستقاء من آبارهم، حتى أمر أن يُعلَف العجينُ الذي عُجنَ بمائهم للنواضح، لتأثير شؤم المعصية في الماء.

وكذلك شؤم تأثير الذنوب في نقص الثمار وما تُرمَى به من الآفات.

 

موافقة الله في صفة من صفاته

من وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلَتْه على ربّه، وأدْنَتْه منه، وقرّبتْه من رحمته، وصيّرتْه محبوبًا له. فإنه سبحانه رحيم يحبّ الرحماء، كريم يحب الكرماء، عليم يحبّ العلماء، قوي يحبّ المؤمن القوي، وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف، حييّ يحبّ أهل الحياء، جميل يحبّ الجمال، وِتْر يحبّ الوتر.

 

من نسي الله أنساه الله نفسه

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي أنّها تستدعي نسيانَ الله لعبده، وتركَه، وتخليتَه بينه وبيّن نفسه وشيطانه، وهناك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 18 - 19].

فأمر بتقواه، ونهى أن يتشبّه عباده المؤمنون بمن نسيَه بترك تقواه، وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه، أي أنساه مصالحَها، وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية وكمال لذتها وسرورها ونعيمها، فأنساه ذلك كلَّه جزاءً لما نسيه من عظمته وخوفه والقيام بأمره.

فترى العاصي مهمِلًا لمصالح نفسه، مضيِّعًا لها، قد أغفل الله قلبه عن ذكره، واتّبع هواه، وكان أمره فرطًا. قد انفرطت عليه مصالح دنياه وآخرته، وقد فرّط في سعادته الأبدية، واستبدل بها أدنى ما يكون من لذّة إنما هي سحابة صيف أو خيال طيف!

فالله سبحانه يعوّض عن كلّ ما سواه، ولا يعوّض منه شيء. ويغني عن كل شيء، ولا يغني عنه شيء. ويمنع من كل شيء، ولا يمنع منه شيء. ويجير من كل شيء، ولا يجير منه شيء. فكيف يستغني العبد عن طاعةِ مَن هذا شأنُه طرفةَ عين؟ وكيف ينسى ذكره ويضيّع أمرَه حتى يُنسيَه نفسَه، فيخسرَها، ويظلمَها أعظمَ الظلم؟ فما ظلم العبدُ ربَّه، ولكن ظلم نفسَه. وما ظلمه ربه، ولكن هو الذي ظلم نفسَه!

 

المعاصي تعوق السير إلى الله

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي أنّها تُضْعِفُ سيرَ القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه، أو توقفه وتقطعه عن السير، فلا تدَعه يخطو إلى الله خطوةً. هذا إن لم تردّه عن وجهته إلى ورائه! فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب. والقلب إنّما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيّره. فإن زالت بالكلّية انقطع عن الله انقطاعًا يبعُد تداركُه.

 

المعاصي تزيل النعم

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي أنّها تُزيل النعم وتُحِلّ النِّقَم. فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلّت به نقمة إلا بذنب؛ كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما نزل بلاءً إلا بذنب، ولا رُفِعَ بلاءً إلا بتوبة.

وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].

فأخبر تعالى أنه لا يغيّر نعَمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغيّر ما بنفسه، فيغيّر طاعةَ الله بمعصيته، وشكرَه بكفره، وأسبابَ رضاه بأسباب سخطه. فإذا غَيَّرَ غُيِّرَ عليه جزاءً وفاقًا، وما ربّك بظلاّم للعبيد. فإنْ غيّر المعصيةَ بالطاعة غيّر الله عليه العقوبةَ بالعافية، والذلَّ بالعز.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].

 

الخوف من الله

من خاف الله آمنه من كلّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كلّ شيء.

 

المعاصي توقع الوحشة في القلوب

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي أنها تُوقعُ الوحشةَ العظيمةَ في القلب، فيجد المذنب نفسَه مستوحشًا، قد وقعت الوحشة بينه وبيّن ربه، وبينه وبيّن الخلق، وبينه وبيّن نفسه. وكلّما كثرت الذنوب اشتدّت الوحشة. وأمرُّ العيشِ عيشُ المستوحشين الخائفين، وأطيبُ العيش عيشُ المستأنسين.


إن الأبرار لفي نعيم

كما أنّ من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنّة مأواه، فكذا يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيمَ أهلها نعيمٌ البتة، بل التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة. وهذا أمر لا يصدّق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا.

ولا تحسبْ أنّ قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13 - 14] ، مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط، بل في دورهم الثلاثة هم كذلك، أعني: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، فهؤلاء في نعيم، وهؤلاء في جحيم. وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟

 

أسير الشهوات

أنّ العاصي دائمًا في أسْر شيطانه، وسجن شهواته، وقيود هواه؛ فهو أسير مسجون مقيد. ولا أسيرَ أسوأ حالًا من أسير أسَرَه أعدى عدوّ له، ولا سجنَ أضيقُ من سجن الهوى، ولا قيدَ أصعبُ من قيد الشهوة.

فكيف يسير إلى الله والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟ وكيف يخطو خطوة واحدة؟ وإذا تقيّد القلب طرقته الآفاتُ من كل جانب بحسب قيوده. ومَثَلُ القلب مِثْلُ الطائر، وكلّما علا بعد عن الآفات، وكلّما نزل احتوَشَتْه الآفات.

 

البعد من الله

أنّ القلب كلّما كان أبعد من الله كانت الآفات إليه أسرع، وكلّما قرُب من الله بعدت عنه الآفات. والبعد من الله مراتب بعضها أشدّ من بعض. فالغفلة تبعد العبد عن الله، وبعدُ المعصية أعظم من بعد الغفلة، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله.

 

أكرم الخلق عند الله أتقاهم

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه. فإنّ أكرم الخلق عند الله أتقاهم، وأقربهم منه منزلةً أطوعهم له، وعلى قدر طاعة العبد له تكون منزلته عنده.

فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه، فأسقطه من قلوب عباده. وإذا لم يبق له جاه عند الخلق وهان عليهِم عاملوه على حسب ذلك، فعاش بينهم أسوأ عيش خاملَ الذكر، ساقط القدر، زريَّ الحال، لا حرمة له، فلا فرح له ولا سرور. فإنّ خمول الذكر وسقوط القدر والجاه معه كلُّ غمّ وهمّ وحزن، ولا سرور معه ولا فرح. وأين هذا الألم من لذة المعصية، لولا سكر الشهوة؟


بدون جدول محتويات

قد تُعجبك هذه المشاركات

9051747429727671967

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث