عبر وعظات من قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا

الكاتب: فريق اقرأ فكرةتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
نبذة عن المقال: عبر عظيمة وعظات كثيرة ومعاني كبيرة مستفادة من قصة الصحابة الثلاثة الذين خلفوا وعلى رأسهم الصحابي الجليل كعب بن مالك.
عبر وعظات من قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا

كنا قد ذكرنا في مشاركة سابقة قصة الصحابة الثلاثة الذين خلفوا، والذين نزلت في حقهم آيات من الكتاب الحكيم، ويمكنكم الوصول إليه من خلال الرابط التالي:

قصة الثلاثة الذين خلفوا على لسان أحدهم

وهنا سنحاول أن نذكر بعض العبر والعظات العظيمة التي يمكن استخراجها من تفاصيل القصة وأحداثها، والتي هي حافلة بالمعاني المهمة، والعبر الكثيرة، التي يمكن أن تفيد المؤمن في حياته، وتعينه في طريقه.

تفاخر الصحابة بالإسلام وبخدمتهم له

في بداية الحديث نجد الصحابي كعب بن مالك رضي الله عنه يذكر خير أعماله في رأيه وهو شهوده بيعة العقبة العظيمة حيث بايع فيها النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ويقول إنني لا أحب أن يكون لي بدلها بدر وإن كان ذكرها في الناس أعظم، وبدرٌ هي أعظم الغزوات التي يتفاخر بها من شهدها أيُّما تفاخر، ومن خلال السيرة يتضح لنا أكثر كيف أن الصحابة كانوا يتفاخرون بالإسلام وبالأسبقية إليه والمسارعة إلى المشاركة في الغزوات وفعل الخيرات وعمل الصالحات.

فكانت المقاييس التي توزن بها الرجال، والأعمال التي يتفاخر بها الصحابة عظيمة كعظمتهم وعظمة ما صنعوه، ليست كمقاييس اليوم ومعاييرها حيث يتفاخر الناس بكثرة المعجبين، وبعدد الفيديوهات والمناشير، وبعدد الحسابات أو بنوع الهاتف الجوال والسيارة ... إلخ، كانوا أُناسٌ يتسابقون إلى الخيرات لا إلى فعل المعاصي والمنكرات، كانوا يسارعون إلى رضوان الله ورسوله لا إلى الغرب ورؤوسه.

فلنعد معاً ولنهتدي بهديهم ولنسير في طريقهم، فنتنازل عن سفاسف الأمور وتوافه الأعمال، ونأخذ الكتاب بقوةٍ فنَنهض ونُنهِض.

خطر الاستسلام لفتنة الدنيا والركون إلى متاعها

يقول كعب بن مالك رضي الله عنه ضمن كلامه المذكور في حديث القصة (يمكنكم الرجوع إليه من هنا): غزَاهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حَرٍّ شَدِيدٍ، واسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، ومَفَازًا وعَدُوًّا كَثِيرًا ويقول أيضاً: غَزَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تِلكَ الغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ والظِّلَالُ.

وفي صحيح مسلم هذه الجملة ملحوقة بـ "فأنَا إلَيْهَا أَصْعَرُ" أي فأنا إليها أي لتلك الثمار والظلال أميل وكأنه يبين لنا أن أحد الأسباب التي ربما شدته للبقاء والتخلف عن ركب جيش المسلمين شهوة الراحة وفتنة الدنيا، مقابل عذاب الحر وبُعد المسافة وكثرة الأعداء.

إنها مغرية فتنة الدنيا هذه، وجذّابة هي شهواتها، تُسقِط في شباكها حتى أعظم الصحابة ممن شهدوا بدراً والعقبة، وتجعلهم يتعثرون حتى كادوا يُهلَكون دون أن تدرك أنهم أعظم من هذا، فلا يلبثوا ينهضون من جديد تائبين راغبين برضا الله ورسوله الكريم، فإذا كان هذا حالهم وهم من هم فكيف بمن دونهم؟

فحري بنا أن نتلقى الدرس نحن المسلمون ونفهمه ولا نلدغ من هذا الجحر والأفعى السامة مرتين، حريّ بنا أن نعرف هذه الدنيا على حقيقتها وندرك تفاهتها وصغرها أمام نعيم لا يزول وملك لا يفنى في جنات خلد بجوار الأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء.

فقد قال الله تعالى فيها: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران:14]

وعلينا أن نعرف أننا سنُفتَن كما فُتِنوا، وسنُمتحن كما اُمتحِنوا، وربما سيكون امتحاننا بالدنيا وشهواتها أكبر وأعظم فهم اُمتحنوا بغيرها في عهد الإسلام الأول، فقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت:2-3]

فوجب أن نتسلح بإيمان قوي لا تهزه الدنيا ولا تضعفه الضربات، بصلاة خاشعة وصيام يتجاوز شهوة البطن والفرج، وزكاة عن طيب خاطر وإرادة، بأذكار في مختلف المواقيت وأدعية ونحن أقرب ما نكون إليه وقت السجود وبعد منتصف الليل، بأخلاق حسنة وأعمال صالحة وقيم ثابتة، فيكون الله بذلك في عوننا، فلولا عونه ما استطعنا أن نهتدي وما استطعنا أن نتغلب على شهوات الدنيا ووساوس الشياطين.

التسويف يورث صاحبه الندامة

يقول كعب بن مالك في حديثه السابق: فَطَفِقْتُ أغْدُو لِكَيْ أتَجَهَّزَ معهُمْ، فأرْجِعُ ولَمْ أقْضِ شيئًا، فأقُولُ في نَفْسِي: أنَا قَادِرٌ عليه، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بي حتَّى اشْتَدَّ بالنَّاسِ الجِدُّ، فأصْبَحَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُسْلِمُونَ معهُ، ولَمْ أقْضِ مِن جَهَازِي شيئًا، فَقُلتُ أتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بيَومٍ أوْ يَومَيْنِ، ثُمَّ ألْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أنْ فَصَلُوا لأتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ ولَمْ أقْضِ شيئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ ولَمْ أقْضِ شيئًا، فَلَمْ يَزَلْ بي حتَّى أسْرَعُوا وتَفَارَطَ الغَزْوُ، وهَمَمْتُ أنْ أرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، ولَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لي ذلكَ.

التسويف صفة خطيرة تودي بصاحبه للندامة والخسران، وتولد في نفسه الحسرة بعد أن يجد بأن الوقت قد انتهى والأيام قد ضاعت في غير منفعة تذكر أو عمل يُسجل أو خير يكتب له، وهو ضياع للفرص الدنيوية منها والآخروية.

فها هو الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه قد لاقى الندامة نتيجة تسويفه لاتخاذ قرار الخروج مع الرسول والصحابة، وتجهيز نفسه لذلك، حتى وجد نفسه في النهاية بين صفوف المنافقين والمعذورين وهو لا عذر له.

فالعاقل من عَلِمَ أن الخير لا يؤجل والعمل الصالح لا يُسَوَف، فمن يضمن لنفسه أن يحيا غداً فيقوم بما يريد، لا بل من يضمن لنفسه أن يحيا دقيقة من الآن، فلنغتنم الأوقات ولنسارع في الخيرات ولننهض لعمل الصالحات قبل أن يأتي أمر الله بغتة فنندم على ما فات يوم لا تنفع الندامة، حيث يقول الله تعالى في محكم التنزيل:

﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون:10-11].

وقال:

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون:99-100].

وقال النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ).

ولذلك يجب على المسلم أن يبادر بالأعمال التي يرى فيها خيره وخير الأمة بعد أن يستخير الله سبحانه وتعالى، فيعزم ويتوكل عليه حيث يقول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران - 159]، ولا يجب أن يؤخرها ويؤجلها فتتمادى به الأيام ثم تقل إرادته ويفتر عزيمته ويصيبه الكسل والخمول فيقع في شباك الشيطان، ولا يقوم بها أبداً فيُحرَم من أجرها وثوابها.

عدم الرضا بصحبة المنافقين ورفقة السيئين

وبعد أن تخلف الصحابي الجليل عن ركب المسلمين، بدأ يشعر بالوحدة والحزن لأنه لم يجد حوله سوى من كان له عذر أقعده من الضعفاء، أو منافقين تخاذلوا ورضوا بالقعود والهوان، حيث يقول: فَكُنْتُ إذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَطُفْتُ فيهم، أحْزَنَنِي أنِّي لا أرَى إلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عليه النِّفَاقُ، أوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ.

يجب على المؤمن ألّا يرضى إلا أن يكون برفقة الأخيار والصالحين، وممن عُرف عنهم حسن إسلامهم وطيب خلقهم، فيهتدي بهم ويثبت معهم، ويكونوا لبعضهم عوناً على عبادة ربهم، فيتآمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، ويمسكوا بأيدي بعضهم لكيلا ينحرفوا عن الصراط المستقيم، ويتعاونوا على البر والتقوى وهداية عباد الله، فيفوزوا معاً بمجاورة من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في جنات الفردوس بإذن الله.

وقال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ۝ يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ۝  لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ۝  ﴾ [الفرقان - 27-29]

 وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا قوله: (الرَّجُلُ على دِينِ خليلِهِ؛ فلينظُرْ أحَدُكم مَن يخالِلُ).

وهنا نقطة هامة وهي أنه ربما يظن البعض من المسلمين أنهم أقوى من أن يضيعوا وينحرفوا بسبب رفيق أو زميل، ولكن رويداً رويداً ومع الأيام لا يجدون أنفسهم إلا وقد أنجروا مع رفقاء السوء إلى ما هم فيه، فالصاحب ساحب.

التواضع للمسلمين وحسن معاشرتهم

ها هو النبي صلى الله عليه وسلم ومعه كبار الصحابة وثلاثون ألفاً من المسلمين متجهين لقتال الروم، إلا أنه ورغم ذلك الوضع الصعب والظرف القاسي الذي كان فيه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لم ينسى صحابته والسؤال عنهم والاستفسار عن أوضاعهم، فعندما وصل لأرض تبوك تجده قد افتقد أحدهم فسأل عنه الصحابة، حيث ورد في الحديث أعلاه: ولَمْ يَذْكُرْنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ: وهو جَالِسٌ في القَوْمِ بتَبُوكَ: ما فَعَلَ كَعْبٌ.

هكذا يعلّمنا قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم الطريقة المثلى للتعامل مع المسلمين، ويوضح لنا حقوقهم، والتي منها حقّ السؤال عنهم والاستفسار عن أحوالهم وافتقادهم ومساعدتهم ومد يد العون لهم عند حاجتهم، وكذلك تقدير مكانتهم واحترام قدرهم وإنزالهم منازلهم التي يستحقونها.

وهنا درس عظيم لقادة المسلمين وأولياء أمورهم أيضاً في أن يتواضعوا للناس، ويكونوا قريبين منهم ومن قلوبهم وهمومهم، وعلى دراية بأحوالهم وظروفهم. وجاء في القرآن الكريم: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولً ﴾ [الإسراء - 28]

حسن الظن بالمسلمين

رأينا كيف أنه عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصحابي كعب بن مالك رد عليه رجل من بني سلمة: يا رَسولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، ونَظَرُهُ في عِطْفِهِ، أي اتهمه بالزهو والكبر والعجب، ولكن صحابي آخر من الصحابة عليهم رضوان الله وهو معاذ بن جبل رد عليه قائلاً: بئْسَ ما قُلْتَ، واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ ما عَلِمْنَا عليه إلَّا خَيْرًا.

نجد هنا كيف إن الصحابي معاذ بن جبل نصر كعب بن مالك في غيبته، وأحسن الظن به وبما قد يكون السبب الذي دفعه إلى عدم الخروج مع المسلمين، وهذا ما يعلمنا الإسلام ويدعونا إليه، وهو حسن الظن بالآخرين، وينبذ سوء الظن والغيبة والنميمة والاعتداء على أعراض المسلمين.

فسرائر الناس وقلوبهم لا يعلم ما بها إلا الله سبحانه وتعالى،  ويقول الله عز وجل في كتابه العزيز: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات - 12]

وحسن الظن بالآخرين راحة لقلب المسلم وسعادة لنفسه وهناءة لباله، به تصفوا علاقاته مع أخوته في الدين، وبه يقوى بينهم الاتفاق والاجتماع، فتصفو الأجواء لعبادة رب العباد، وعمارة الأرض، ونشر الإسلام في الأرجاء.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَنافَسُوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا)

إنكار الخطأ وليس مهاجمة الشخص

في هذا الموقف العظيم يعلمنا الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه الأسلوب الحضاري في محاورة الآخرين ومناقشتهم والرد عليهم، وذلك عندما قال للرجل الذي اغتاب الصحابي كعب بن مالك رضي الله عنه: بئس ما قلت، فلم يهاجم شخصه وإنما أنكر الخطأ الذي وقع فيه، وهذا يدل على عظمة الأخلاق ورقي السلوك الذي كان يتصف به ذلك الجيل الذي به قامت أعظم الحضارات على الإطلاق.

فينبغي لنا أن نتأسى بهم وبأخلاقهم فلا نهاجم الأشخاص الذين يخطئون، ونبدأ بالجرح فيهم وبأخلاقهم، ونستهزئ بهم وننزل من مراتبهم.

بل ينبغي أن ننكر عليهم أفعالهم ونناقش أفكارهم بأسلوب محترم وراقي لا يدفعهم إلى المقاومة والاستمرار على الخطأ، وإنما يجعلهم يقبلون النقد الذي نوجهه لهم ويلتزموا به، فننال أجر هدايتهم وتغييرهم، وهذا هو قمة النضوج الفكري في التعامل مع الآخرين.

لا تحقرن من المعروف شيئاً

إن المسلم الحق ينبغي ألّا يقلل من شأن المعروف مهما كان مقداره، فربَّ عملٍ حقيرٍ في أعين الناس وموازينهم، ولكن هو عند الله عظيم، ينال صاحبه به الرضا والخير الكثير.

ولا يجب أن يمتنع عن القيام به خجلاً وحياءً من مقداره البسيط وخوفاً من أن تتداوله ألسنة المنافقين، بل عليه أن يسابق إليه ويداوم عليه بنية صالحة وخالصة، فالله سبحانه وتعالى يقدّر المعروف من المؤمنين قليلاً كان أو كثيراً.

وقد كان النبي صلى  الله عليه وسلم يحث المسلمين على الأعمال الصالحة مهما كانت بسيطة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحْقِرَنَّ من المعرُوفِ شيْئًا ، ولوْ أنْ تلْقَى أخاكَ بوجْهٍ طلْقٍ)، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقَّةِ تَمْرَةٍ فمَن لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ).

وقال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة - 121]، وقال أيضاً: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ۝ ﴾ [الزلزلة- 7 , 8].

فالخير القليل قد يكون قدره عند الله سبحانه وتعالى كبيراً، وذلك بحسب القائم بالعمل أو الحال الذي تم فيه، فقد يُعَظَّم العمل عند الله بسبب نية صاحبه العظيمة، أو لأن ذلك غاية ما يستطيع القيام به، أو لأنه قد قام به مع إيثار الآخرين على نفسه مع حاجته وغيرها من المواقف والأحوال التي قد يكون الخير القليل فيها عظيماً عند الله عز وجل، فيجزي صاحبه خير الجزاء، وهو الغني الكريم الذي يضاعف الحسنات أضعافاً مضاعفة.

ومما ينبغي للعبد المؤمن أن يتنبه إليه أن العمل الصغير بالمداومة والاستمرار عليه يتحول بنتاجه إلى فعل كبير، يثقل به ميزانه يوم القيامة، فأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أي العمل أحب إلى الله سبحانه وتعالى فقال: (أَدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ).

صلاة ركعتي سنة عند السفر إلى مكان أو العودة منه

هنا يلفت انتباهنا أيضاً ذكر الصحابي كعب بن مالك رضي الله عنه لسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم عند القدوم من السفر، وهي صلاة ركعتين في المسجد قبل الذهاب للقاء الأهل في البيت أو لقاء الأصحاب في المجالس، حيث قال: وأَصْبَحَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَادِمًا، وكانَ إذَا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بَدَأَ بالمَسْجِدِ، فَيَرْكَعُ فيه رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ.

وهي سنة يغفل عنها الكثير منّا في يومنا هذا.

ولعل من حِكَم هذه السنة شكر الله وحمده لإنعامه علينا بالعودة بسلامة إلى ديارنا، وليكون أول ما نلقاه وما نسلم عليه هو بيت الله فننال التوفيق طوال مكوثنا في البلاد.

ويمكنكم الاطلاع على المزيد من التفاصيل بخصوص هذه السنة النبوية من خلال الكتب والمواقع المتخصصة.

تقديم رضى الله على رضى عباده

قال الصحابي كعب بن مالك في حديثه الذي ذكرناه في الأعلى:

فَجِئْتُهُ (أي الرسول صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا سَلَّمْتُ عليه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ فَجِئْتُ أمْشِي حتَّى جَلَسْتُ بيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: ما خَلَّفَكَ، ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ.

فَقُلتُ: بَلَى، إنِّي واللَّهِ لو جَلَسْتُ عِنْدَ غيرِكَ مِن أهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أنْ سَأَخْرُجُ مِن سَخَطِهِ بعُذْرٍ، ولقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولَكِنِّي واللَّهِ، لقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليومَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى به عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، ولَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إنِّي لَأَرْجُو فيه عَفْوَ اللَّهِ، لا واللَّهِ، ما كانَ لي مِن عُذْرٍ، واللَّهِ ما كُنْتُ قَطُّ أقْوَى، ولَا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.

فنجد فيما قاله قوة الإيمان بالله وعبادته بدرجة الإحسان، وهو أن يعبده العبد وكأنه يراه فإن لم يكن يراه فالله يراه، وهذا ما فعله الصحابي الجليل حيث فضّل قول الصدق الذي قد يُغضِبُ النّبي فلا يرضى به عليه ولكنه يُرضي الله جل في علاه على قول الكذب الذي يرضى به النبي عليه ولكنه يغضب الله.

ولا شكّ في أنّ من يفوز برضى الله فهو الفوز العظيم الذي لا يضاهيه فوز، فكان أن قال الصدق فرضى عنه الله وتاب عليه فرضي عنه النبي والمسلمين، على عكس المنافقين الذين كذبوا على النبي والصحابة فاستغفر لهم الرسول وبايعهم ولكن كذَّبهم الله من فوق سبع سماوات وفضّحهم بين المسلمين.

هكذا يجب أن يكون العبد المؤمن يراقب الله في كل أعماله وأقواله، ويعبده وهو يعلم بأنه هو المطلع على سرائر القلوب وبواطنها، فلا يسعى لإرضاء أحدٍ بإغضاب الله، وإنما يُرضي الله في كل ما يقدم عليه فيجعل الله له القبول والحب والرضا بين الناس.

ويقول الله تعالى في كتابه العزيز:﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء - 106].

ويقول أيضاً: ﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ۖ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة - 96]

تبرير الذنب أخطر من ارتكابه

ارتكاب الإنسان للأخطاء وإقدامه على فعل الذنوب والسيئات في حياته أمرٌ نادراً ما يسلم منه أحد، وقد يكون ذلك بسبب بعض الصفات البشرية التي فينا كالضعف والنسيان والهوى.

ولكن الأمر المفصلي هنا الذي سيغير نتيجة ارتكاب الإنسان لهذا الخطأ هو استشعاره لخطئه، وعدم تبريره إياه ولوم غيره على فعله، وإنما على العكس من ذلك لومه لنفسه وشعوره بالندم على ارتكاب ذلك، وتوبته إلى الله بقلب صادق، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخطَّائينَ التوَّابونَ).

فتبرير الإنسان لخطئه وغض الطرف عنه بل وحتى في بعض الأحيان شرعنته أمر خطير جداً، أخطر حتى من ارتكاب الخطأ نفسه، لأنها تجعله يتجاهل التوبة ويستمر على فعله للخطأ والذنب وقد يحسب أنه يُحسن صنعاً بل وقد يدعو إليه الآخرين فيغفل حتى يأتي أمر الله بغتة فيكون ممن قال فيهم الله جل وعلا في كتابه العزيز: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ۝ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف - 103، 104].

ونجد كيف أن الصحابي كعب بن مالك معترف بذنبه ومستشعر لخطأه، بل وفوق ذلك ذكره لكل المسلمين ليتعلموا مما وقع هو فيه فيتجنبوه، ويكون له ولهم درساً يفقهوه، فتاب وطلب المغفرة فنالها بفضل الله ورحمته.

الثبات على الحق بعد معرفته رغم الوحدة

في القصة رأينا أنه بعد أن اعترف الصحابي الجليل كعب بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم بما بدر منه وخرج، حاول جماعة من بني سلمة أن يوهموه بأنه ارتكب خطأ بقوله الصدق، وحاولوا أن يدفعوه للتراجع فيقول كما قال الذين قبله فيغفر له النبي وينجو مما فرض عليه من هجر المسلمين له.

ولكن الصحابي الجليل كعب بن مالك ثبت على رأيه الذي وجد أنه الحق، ولم يتأثر بوسوسة الباقين ممن حوله ضارباً لنا أروع مثال في الثبات على الحق بعد معرفته رغم قلة الداعمين من حوله.

فالحق لا يُعرف أبداً بكثرة متّبعيه وكثرة الداعين إليه، ففي يوم من الأيام كان الإسلام وهو ما هو من الحق عبارة عن النبي وعصبة من الصحابة لا حول لهم ولا قوة، وكان الشرك وهو ما هو من الباطل كثير المريدين والاتباع.

وهناك قاعدة مهمة تقول الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما اعرف الحق تعرف رجاله.

وهذا كثيراً ما نحتاج إليه في يومنا هذا الذي قد يجد المؤمن الحق الصادق نفسه بعض الأحيان غريباً عمن حوله من غير الملتزمين من المسلمين أو من الملحدين أو حتى المشركين والكافرين، فلذلك يجب عليه أن يقوّي إرادته ويلتزم بالحق الذي هو كل ما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويتحصن بالإيمان القوي والعلم الرصين فيدفع عن نفسه وساوس شياطين الإنس والجن.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (بدأ الإسلام ُغريبا ً ثم يعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يُصلِحون إذا فسد الناس).

الرضا بحكم الله وحكم الرسول

في هذه القصة أيضاً مثال رائع عن رضا ذلك الجيل العظيم من الصحابة والمسلمين بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومدى التزامهم بتنفيذه.

فنجد كيف إن جميع المسلمين التزموا بما أمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم بهجر هؤلاء الصحابة الثلاث الذين خلفوا، وتجنب مخاطبتهم والتعامل معهم، لدرجة لم يرد فيها ابن العم على ابن عمه، وترَكت المرأة فيها زوجها.

وليس هذا فقط بل حتى أنه من وقع عليه الحكم وهم هؤلاء الصحابة الثلاث قد رضوا بحكم الله ورسوله دون أي اعتراض أو زجر، والتزموا به بشكل تام صابرين محتسبين لمدة خمسين يوماً، حتى أنزل الله فيهم حكمه وتاب عليهم.

وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء - 65].

فلا يتم إيمان المرء إلا بتحكيم شرع الله ورسوله في جميع الأمور، فهو الحق الذي لا حق بعده والأمر الذي يجب الانقياد له والالتزام بتنفيذه ظاهراً والرضا به باطناً.

ولا شك إن النجاح والفلاح يكمنان في هذا وإن كنا في بعض الأحيان بعقولنا البشرية القاصرة عن إدراك الحكمة من كل ما شرعه الله نرى خلاف ذلك.

الصبر على المحن والابتلاءات

من أعظم العبر والدروس التي يمكن استخراجها من قصة هؤلاء الصحابة الثلاثة هو أهمية صبر المؤمن على المِحَن والابتلاءات التي يُبتلى بها، واحتساب الأجر على الله سبحانه وتعالى.

والصبر على المحن والابتلاءات يكون بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، والثبات على الدين الحق والصراط المستقيم، وحمد الله على ما هو فيه، والبقاء ملتزماً بالعبادات والطاعات وعمل الصالحات.

وكذلك يكون الصبر بالتغلب على وساوس شياطين الجن والإنس التي تكثر في أوقات الابتلاءات والمحن، فتحوم حول المسلمين وتتربص بهم الدوائر، وتحاول أن تجرهم إلى مستنقع الكفر والشرك والضياع، فوجب على المسلم الحذر والتمسك بحبل الله.

ونرى كيف أن هذا الصحابي الجليل قد صبر على ابتلاء الله له وهو حامد وشاكر وثابت على دينه، ولم يسمح لوساوس شياطين الجن والإنس أن تثنيه عن هذا، وتودي به إلى التهلكة.

فرفض وهو في الحال الذي عليه مِن هجر المسلمين له وشعوره بالوحدة ما عرضه عليه أعداء المسلمين من المال والجاه، فكانت عاقبة صبره أن فاز ونال الأجر العظيم.

ولعل مما يُصَّبر الإنسان على المحن والابتلاءات، معرفته بأن الابتلاءات عندما تصيب العبد المؤمن الصادق تكون من محبة الله له، وإنه كلما كان البلاء عظيماً كلّما كان الجزاء أعظم إذا ما صبر عليها واحتسب اجره على الله.

وقد كان انبياء الله عليهم السلام أكثر البشر ابتلاءً، والمتصفح لسيرة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام سيجد عظيم الابتلاءات التي اُبتلي بها بأبي هو وأمي خلال حياته، وقد ورد عنه قول: (إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن اللهَ – عز وجل - إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ).

وقد وعد الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الصابرين بأجر عظيم: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر - 10].

وقال أيضاً: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝  أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة - 155-157].

والمؤمن الحق العارف بالله ربما سيفرح بالبلاء أكثر من فرحه بزواله، وسيدرك أن البلاء نعمة عظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد يطهره به من الذنوب ويقربه من خلاله إليه ويقوي به إيمانه ويرفع مقامه ويثقل ميزان حسناته.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُصِبْ منه)، وكذلك قوله: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له وقوله: ما يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِن وصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ حتَّى الهَمِّ يُهَمُّهُ، إلَّا كُفِّرَ به مِن سَيِّئاتِهِ).

تحري الصدق يهدي إلى الفلاح

بالصدق فقط استطاع هؤلاء الصحابة الثلاثة أن يفوزوا برضى الله ورحمته، فتاب عليهم، وأنزل فيهم آيات كريمات في كتابه العزيز سيظل المسلمون يتلونها حتى تقوم الساعة، فيبقى ذكرهم ويدوم بدوام الحياة على هذه الأرض.

فأي فضل وأي فلاح أعظم مما حصلوا عليه، ولا شكّ أن الفلاح في الدنيا والآخرة والفوز برضا الله سيكون نصيب كل مؤمن صادق، وإن كان يظن ويرى بضعف بصيرته البشرية غير ذلك على المدى القصير.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم داعياً المسلمين إلى التخلق بهذا الخلق العظيم: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا).

فالصدق صفة من صفات المؤمنين وخلق من أخلاق المتقين، وبه يتميز أهل الإيمان عن أهل الكفر والنفاق، وأهل الجنة عن أهل النار.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا - أَوْ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِن أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ - حتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ).

وقد قال الله تعالى في مدح الصادقين: ﴿ قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة - 114].

فوجب على المؤمن أن يتحرى الصدق مع ربه ونفسه ومع المسلمين من حوله، فينال الفلاح في الدنيا والآخرة، حيث ينال في الدنيا راحة الضمير وطمأنينة القلب والسمعة الطيبة وبركةً في الأعمال والأفعال، وفي الآخرة الفوز برضا الله والخلود في جنات النعيم، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبُكَ، فإنَّ الصِّدقَ طُمأنينةٌ وإنَّ الكذبَ رِيبةٌ).

استحباب بِشارة المسلمين بالخير

تبشير المسلمين بالخير عمل مستحبٌ في الإسلام، وذلك لما فيه من عظيم الأجر لإدخال المسلم السرور على قلب مسلم آخر.

وقد كان الجيل الأول من عظماء المسلمين يتسابقون إلى ذلك لنيل عظيم أجره، فنرى في قصتنا هذه كيف أن أحد الصحابة ركب الفرس ليركض به ويبشر الصحابي كعب بن مالك رضي الله عنه بتوبة الله عليه والآخر صعد قمة جبل ليبشره قبل الأول وكذلك تسابق بعضهم لتبشير الصحابيَين الآخرين.

كما ورد عن عمر بن الخطاب أنه قال: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم لا يَزالُ يَسْمُرُ عند أبي بكرٍ اللَّيلةَ كذلك في الأمرِ مِن أمْرِ المسلمينَ، وإنَّهُ سَمَرَ عندَهُ ذاتَ ليلةٍ وأنا معهُ، فخَرَجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم وخرَجْنا معهُ، فإذا رَجُلٌ قائمٌ يُصَلِّي في المسجدِ، فقامَ رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم يَستَمِعُ قِراءَتَهُ، فلمَّا كِدْنا أنْ نَعْرِفَهُ قال رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم: مَن سَرَّهُ أنْ يَقْرَأَ القُرآنَ رَطْبًا كما أُنزِلَ فلْيَقْرَأْ على قراءَةِ ابنِ أُمِّ عَبْدٍ. قال: ثُمَّ جَلَس الرَّجُلُ يَدْعو، فجَعَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم يقولُ: سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ. قال عُمرُ: قلتُ: واللهِ لأَغْدُونَّ إليه فلَأُبَشِّرَنَّهُ. قال: فغَدَوْتُ لِأُبَشِّرَهُ, فوجَدْتُ أبا بكرٍ قد سبَقَني إليه فبَشَّرَهُ. ولا واللهِ، ما سَبَقْتُهُ إلى خيرٍ قَطُّ إلَّا وسَبَقَني إليه.

فنرى كيف أنّ أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وهم من هم من العظمة والمكانة والقدرِ يتسابقون لبشارة أحد المسلمين لإدخال الفرح والسرور إلى قلبه، فحريٌّ بنا كذلك أن نتمسك بسنتهم ونسير على دربهم.

والبِشارة هي من أعظم مهام الرسل والأنبياء فقد ارسلهم الله سبحانه وتعالى لتبشير المؤمنين الصادقين السائرين على الصراط بجنات النعيم، حيث قال الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ .. ﴾ [البقرة - 213].

وهناك عدد كبير من الآيات التي تحمل البِشارات للمؤمنين في القرآن الكريم ومنها: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران - 39] ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران - 45] ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ﴾ [التوبة - 21].

 فتقديم البِشارة خلق قرآني وصفة من صفات المؤمنين الصالحين، فهي دليل على صفاء قلب المؤمن وإرادته الخير لإخوانه المسلمين، وبه يفرح الآخر ويطمئن قلبه وتسكن روحه، وبه تزداد الألفة والمحبة والاجتماع بين المؤمنين.

ما يفعله من يتلقى البشارة

يستحب لمن يتلقى البِشارة، ولمن يتجدد له نعمة أو تزول عنه نقمة أن يحمد الله عز وجل ويخر ساجداً له بسجدة شكر كما فعل الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه في قصتنا هذه، وعن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرُ سُرُورٍ أَوْ بُشِّرَ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا شَاكِرًا لِلَّهِ).

وإذا ما تصدق الإنسان عند تلقيه لبشارة تفرحه أو كان ينتظرها فلا شكّ أنه سينال ثوابها ويكسب خيرها فقد تصدق كعب بن مالك رضي الله عنه بعد أن حصل له ما كان ينتظره من خمسين يوم.

وكذلك يستحب أن يقدِّم شيئاً لِمَن قدَّم له البِشارة فيُفرحه كما سارع هو إلى إدخال الفرح والسرور إلى قلبه.

سعادة المؤمن في قلبه وغايته رضا ربه

إن مما يثير الانتباه أيضاً في هذه القصة العظيمة التي لا تنتهي عطاءاتها هو قدرة هذا الصحابي القوي في إيمانه على التجول في الأزقة والأسواق والذهاب لصلاة الجماعة رغم تجنب الجميع له، فلنتخيل أنفسنا في زماننا هذا كيف سيكون حالنا لو تجنبنا كل من حولنا؟

سنتألم كثيراً وسنظل نفكر فيهم في كل لحظة وسنتجنب ملاقاتهم والمرور من أمامهم، سنحاول أن نختبئ في المنزل ولا نخرج، وستصيبنا الأمراض النفسية من اكتئاب وقلق وقد يندفع بعضنا للكفر وبعضنا الآخر للانتحار أعاذنا الله وإياكم من كل هذا، ولكن لا شك في إن هذا سيكون مصير الكثير لو عُوملوا بمثل ما عومل به الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه.

فالمؤمن الصادق الحق، القوي في إيمانه، والمؤمن بقضاء ربه، والملتزم بأوامره والراغب في رضاه والفوز بنظرة إلى وجهه، سيكون دائماً في سكينة وطمأنينة، سعادته في قلبه وراحته في راحة ضميره، لن يهمه رضا الناس من حوله إن كان ساعياً لرضا ربه والحياة بقرآنه والسير على خطا نبيه.

ويقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح - 4] ويقول أيضاً: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد - 28].

 

التصنيفات

قد تُعجبك هذه المشاركات

9051747429727671967

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث