فوائد قيمة من كتاب الداء والدواء لابن القيم (2)

الكاتب: فريق اقرأ فكرةتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
نبذة عن المقال: درر ثمينة وفوائد قيمة ومعاني عظيمة مقتبسة من كتاب الداء والدواء لابن قيم الجوزية الجزء الأول.
فوائد قيمة من كتاب الداء والدواء لابن القيم (2)

كُتُب العلماء وآثارهم لا تغني بأي شكل من الأشكال عن كلام الله جلّ في علاه وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، ولكن لا شكّ في أنها تساعد على تدبر كتاب الله وفهم سنة نبيه بشكل أفضل، فتقرب لنا البعيد وتصحح لنا المغلوط وتوضح لنا المبهوم وتضعنا على الطريق القويم والصراط المستقيم.

وهنا أقدّم لكم المجموعة الأولى من الاقتباسات الجميلة والدرر الثمينة والكلمات القيمة المستقاة من كتاب "الداء والدواء" للإمام الفاضل شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية رحمه الله، ولم اقم باختصارها بشكل يخل بالمعنى ويزيل عنها الجمال والروعة ولم أقتبسها طويلة أيضاً فيمل منها القارئ، وإنما جمعتها واقتبستها موجزة قصيرة غنية بالمعاني العظيمة.

فلنبدأ بسم الله وعلى بركة الله


في رضا الله كل النعيم

يا عجبًا لو صحّت العقول لعلمتْ أنّ طريق تحصيل اللذة والفرحة والسرور وطيب العيش إنما هو في رضى مَن النّعيمُ كلُّه في رضاه، والألمُ والعذابُ كلُّه في سخطه وغضبه.

ففي رضاه قرّة العيون، وسرور النفوس وحياة القلوب، ولذة الأرواح، وطيب الحياة، ولذة العيش، وأطيب النعيم، مما لو وُزِن منه مثقالُ ذرّة بنعيم الدنيا لم يف به، بل إذا حصل للقلب من ذلك أيسر نصيب لم يرضَ بالدنيا وما فيها عوضا منه.

ومع هذا فهو يتنعم بنصيبه من الدنيا أعظمَ من تنعّم المترَفين فيها، ولا يشوب تنعّمَه بذلك الحظّ اليسير ما يشوب تنعّمَ المترفين من الهموم والغموم والأحزان والمعارضات، بل قد حصل على النعيمين، وهو ينتظر نعيمين آخرين أعظم منهما.

وما يحصل له في خلال ذلك من الآلام، فالأمر كما قال الله سبحانه: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)} [النساء: 104].

فلا إله إلا الله، ما أنقَصَ عقلَ من باع الدرَّ بالبعر، والمسكَ بالرجيع، ومرافقةَ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين بمرافقة الذين غضب الله عليهم، ولَعَنهم، وأعدّ لهم جهنَّم وساءت مصيرًا!


العداوة التي بيننا وبين الشيطان

إنّ المحبة والطاعة لا تتمّ إلا بمعاداة أعداء المطاع وموالاة أوليائه. وأمّا أن توالي أعداءَ الملِك ثم تدّعي أنّك موالٍ له، فهذا محال. هذا لو لم يكن عدوُّ الملك عدوًّا لكم، فكيف إذا كان عدوًّا لكم على الحقيقة، والعداوةُ التي بينكم وبينه أعظمُ من العداوة التي بين الشاة والذئب؟ فكيف يليق بالعاقل أن يوالي عدوَّه وعدوَّ وليّه ومولاه الذي لا مولى له سواه؟

ونبّه سبحانه على قبح هذه الموالاة بقوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] ، كما نبّه على قبحها بقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] . فتبيّن أنّ عداوته لربّه وعداوته لنا، كلٌّ منهما سببٌ يدعو إلى معاداته، فما هذه الموالاة؟ وما هذا الاستبدال؟ بئس للظالمين بدلا!

ويشبه أن يكون تحت هذا الخطاب نوعٌ من العتاب لطيفٌ عجيبٌ، وهو أنّي عاديتُ إبليس إذ لم يسجد لأبيكم آدم مع ملائكتي، فكانت معاداتُه لأجلكم، ثم كان عاقبة هذه المعاداة أن عقدتم بينكم وبينه عقد المصالحة!

 

الذنوب والمعاصي تمحق البركة

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي أنها تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة. وبالجملة، تمحق بركة الدين والدنيا. فلا تجد أقلَّ بركةً في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله. وما مُحِقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] . وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)} [الجن: 16].

كانت معصيةُ الله سببا لمحق بركة الرزق والأجل؛ لأنّ الشيطان موكَّل بها وبأصحابها، فسلطانُه عليهم، وحوالتُه على هذا الديوان، وأهلُه أصحابُه؛ وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه، فبركته ممحوقة. ولهذا شُرع ذكرُ اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجماع، لما في مقارنة اسمِ الله من البركة. وذكرُ اسمه يطرد الشيطان، فتحصل البركة، ولا معارض لها.

وكلّ شيء لا يكون لله، فبركته منزوعة، فإنّ الربّ هو الذي تبارك وحده، والبركة كلّها منه، وكلّ ما نُسِب إليه مبارك.

فلا متبارك إلا هو وحده، ولا مبارك إلا ما نسب إليه، أعني: إلى محبته وألوهيته ورضاه، وإلا فالكون كلّه منسوب إلى ربوبيته وخلقه. وكلّ ما باعده من نفسه من الأعيان والأقوال والأعمال فلا بركة فيه ولا خير فيه، وكلّ ما كان قريبًا منه من ذلك ففيه من البركة على حسب قربه منه.

فمن ها هنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر والرزق والعلم والعمل. فكلُّ وقتٍ عصيتَ الله فيه، أو مالٍ عُصِيَ اللهُ به، أو بدنٍ، أو جاهٍ، أو علمٍ، أو عملٍ، فهو على صاحبه، ليس له. فليس عمرُه وماله وقوته وجاهه وعلمه وعمله إلا ما أطاع اللهَ به.

ولهذا من الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها، ويكون عمره لا يبلغ عشر سنين أو نحوها؛ كما أنّ منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها. وهكذا الجاه والعلم.

 

لا حياة للإنسان إلا بالله

إنّ حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه، ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره، ومحبته، وعبادته وحده، والإنابة إليه، والطمأنينة بذكره، والإنس بقربه. ومن فقد هذه الحياة فقَدْ فَقَد الخيرَ كله، ولو تعوّض عنها بما تعوّض. فما في الدنيا بل ليست الدنيا بأجمعها عوضًا عن هذه الحياة! فمن كلّ شيء يفوت العبدَ عِوَضٌ، وإذا فاته الله لم يعوِّض عنه شيء البتة.

وكيف يعوَّض الفقيرُ بالذات عن الغني بالذات، والعاجزُ بالذات عن القادر بالذات، والميّتُ عن الحي الذي لا يموت، والمخلوق عن الخالق، ومن لا وجود له ولا شيء له من ذاته البتة عمّن غناه وحياته وكماله ووجوده ورحمته من لوازم ذاته؟ وكيف يعوَّض من لا يملك مثقال ذرة عمّن له مُلْكُ السموات والأرض؟

 

الطاعات ترتفع بالإنسان والمعاصي تنزل به

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي أنها تجعل صاحبَها من السِّفْلة بعد أن كان مُهَيًّأ لأن يكون من العِلْية. فإنّ الله خلق خلقَه قسمين: عِلية وسِفلة، وجعل علّيين مستقرّ العلية، وأسفل سافلين مستقرّ السفلة. وجعل أهل طاعته الأعلَين في الدنيا والآخرة، وأهل معصيته الأسفلِين في الدنيا والآخرة، كما جعل أهل طاعته أكرمَ خلقه عليه، وأهلَ معصيته أهونَ خلقه عليه، وجعل العزّة لهؤلاء، والذلّة والصغار لهؤلاء. كما في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر عن النبي- صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "جُعل الذلّة والصَّغار على من خالف أمري".

فكلّما عمل العبد معصيةً نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين. وكلّما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلَين. وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه، والنزول من وجه، وأيّهما كان أغلب عليه كان من أهله. فليس من صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة كمن كان بالعكس.

ولكن يعرض ها هنا للنفوس غلط عظيم، وهو أنّ العبد قد ينزل نزولًا بعيدًا أبعدَ مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض، فلا يفي صعودُه ألفَ درجة بهذا النزول الواحد، كما في الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنّ العبد لَيتكلّم بالكلمة الواحدة، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب".

 

القلب يضعف بالذنوب

القلب يصدأ بالذنوب ويجرَب، ويصير مُثخَنًا بالمرض، فإذا احتاج إلى محاربة العدو به لم يجد معه شيئًا. والعبد إنّما يحارب ويصاول ويُقدِم بقلبه، والجوارح تَبَعٌ للقلب، فإذا لم يكن عند ملِكها قوة يدفع بها، فما الظنّ بها!

 

بالذنوب قد تموت النفس المطمئنة

إن النفس تتخنّث بالشهوات والمعاصي، وتضعف، أعني النفس المطمئنة، وإن كانت الأمّارة تقوى وتتأسّد. وكلّما قويت هذه ضعفت تلك، فيبقى الحكم والتصرّف للأمّارة. وربما ماتت نفسه المطمئنّة موتاً لا يرجى معه حياة، فهذا ميّت في الدنيا، ميّت في البرزخ، غير حيّ في الآخرة حياةً ينتفع بها، بل حياتُه حياةٌ يدرك بها الألم فقط.


السبيل لحسن الخاتمة

إذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكّن منه الشيطان، واستعمله فيما يريده من معاصي الله، وقد أغفل قلبه عن الله، وعطّل لسانَه عن ذكره، وجوارحَه عن طاعته، فكيف الظنّ به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع، وجَمْع الشيطانِ له كلَّ قوته وهمّته، وحَشْدِه عليه بجميع ما يقدر عليه، َ لينال منه فرصته، فإنّ ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانُه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحال؟ فمَن تُرى يَسلَمُ على ذلك؟ فهناك { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) } [إبراهيم: 27].

فكيف يوفَّق لحسن الخاتمة من أغفل اللهُ سبحانه قلبَه عن ذكره، واتّبَعَ هواه، وكان أمره فُرُطًا؟ فبعيدٌ من قلبٍ بعيدٍ من الله تعالى، غافلٍ عنه، متعبّدِ لهواه، أسيرٍ لشهواته؛ ولسانٍ يابسٍ من ذكره، وجوارحَ معطّلةٍ من طاعته مشتغلةٍ بمعصيته أن توفَّقَ للخاتمة بالحسنى.

 

الذنوب تُنسي العبد نفسه

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي أنها تنسي العبد نفسَه، فإذا نسي نفسَه أهملها وأفسدها وأهلكها. فإن قيل: كيف ينسى العبد نفسَه؟ وإذا نسيَ نفسه، فأيَّ شيء يذكر؟ وما معنى نسيانه نفسَه؟

قيل: نعم، ينسى نفسَه أعظمَ نسيان. قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. فلما نسوا ربَّهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم كما قال: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] فعاقب سبحانه من نسِيَه عقوبتين: إحداهما: أنه سبحانه نسيه. والثانية: أنّه أنساه نفسَه.

ونسيانُه سبحانه للعبد: إهمالُه، وتركُه، وتخلّيه عنه، وإضاعتُه؛ فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم!

وأما إنساؤه نفسَه فهو: إنساؤه لحظوظها العالية وأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها وما تكمل به، يُنسيه ذلك جميعَه، فلا يُخطِره بباله، ولا يجعله على ذكره، ولا يصرف إليه همّتَه فيرغبَ فيه، فإنه لا يمرّ بباله حتى يقصدَه ويُؤثِره. وأيضًا فيُنسيه عيوبَ نفسه ونقصَها وآفاتِها، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها.

وأيضًا يُنسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامَها، فلا يخطر بقلبه مداواتُها، ولا السعيُ في إزالة عللها وأمراضهَا التي تؤول به إلى الفساد والهلاك. فهو مريض مثخَن بالمرض، ومرضه مُترامٍ به إلى التلف، ولا يشعر بمرضه، ولا يخطر بباله مداواته. وهذا من أعظم العقوبة العامة والخاصة.

 

الذنوب من أسباب زوال النعم

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي أنها تُزيل النِّعَمَ الحاضرةَ، وتقطع النعم الواصلة، فتُزيل الحاصلَ، وتمنع الواصلَ. فإنّ نعم الله ما حُفِظ موجودُها بمثل طاعته، ولا استُجْلِبَ مفقودُها بمثل طاعته، فإنَّ ما عنده لا يُنال إلا بطاعته.

وقد جعل الله سبحانه لكل شيء سببًا وآفةً: سببًا يجلبه، وآفة تبطله. فجعل أسبابَ نعمِه الجالبةَ لها طاعتَه، وآفاتِها المانعةَ منها معصيتَه. فإذا أراد حفظَ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذَلَه حتى عصاه بها.

 

عقوبات الجرائم على حسب الدواعي إليها والوازع عنها

العقوبات التي رتّبها الله سبحانه وتعالى على الجرائم جعلها بحكمته على حسب الدواعي إلى تلك الجرائم، وحسب الوازع عنها.

فما كان الوازع عنه طبيعيًّا وليس في الطباع داعٍ إليه اكتفى فيه بالتحريم مع التعزير ولم يرتّب عليه حدّاً كأكل الرجيع، وشرب الدم، وأكل الميتة.

وما كان في الطباع داعٍ إليه رتّب عليه من العقوبة بقدر مفسدته وبقدر داعي الطبع إليه. ولهذا لما كان داعي الطباع إلى الزِّنى من أقوى الدواعي كانت عقوبته العظمى أشنعَ القتلات وأعظمَها، وعقوبته السهلة أعلى أنواع الجَلْد مع زيادة التغريب. ولما كان اللواط فيه الأمران كان حدّه القتل بكل حال. ولما كان داعي السرقة قويًّا، ومفسدتها كذلك، قطع فيها اليد.

فعقوبات الشارع جاءت على أتمّ الوجوه، وأوفقِها للعقل، وأقوَمِها بالمصلحة.

 

عقوبات المعاصي

لا يجتمع الحدّ والتعزير في معصية، بل إن كان فيها حدّ اكتفيَ به، وإلا اكتفى بالتعزير. ولا يجتمع الحدّ والكفارة في معصية، بل كلّ معصية فيها حدّ فلا كفارة فيها، وما فيه كفارة فلا حدّ فيه.


الذنب لا يخلو من عقوبة البتة

الذنب لا يخلو من عقوبة البتة، ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة؛ لأنّه بمنزلة السكران والمخدَّر والنائم الذي لا يشعر بالألم، فإذا استيقظ وصحا أحسّ بالمؤلم.

فترتّبُ العقوبات على الذنوب كترتّب الإحراق على النار، والكسر على الانكسار، والإغراق على الماء، وفساد البدن على السموم، والأمراض على الأسباب الجالبة لها.

وقد تقارن المضرة للذنب، وقد تتأخر عنه إمّا يسيراً وإمّا مدةً، كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه. وكثيراً ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام، ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه، ولا يدري أنه يعمل عمله على التدريج شيئاً فشيئاً، كما تعمل السموم والأشياء الضارّة حذو القُذّة بالقذّة.

فإنْ تدارك العبدُ بالأدوية والاستفراغ والحمية وإلا فهو صائر إلى الهلاك. هذا إذا كان ذنباً واحداً لم يتداركه بما يزيل أثره، فكيف بالذنب على الذنب كلّ يوم وكلّ ساعة؟

 

الذنوب تعمي القلب وتصمه وتبكمه

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي جعل القلب أصمّ لا يسمع الحقّ، أبكم لا ينطق به، أعمى لا يراه؛ فيصير النسبة بين القلب وبيّن الحقّ الذي لا ينفعه غيره كالنسبة بين أذن الأصمّ والأصوات، وعين الأعمى والألوان، ولسان الأخرس والكلام.

وبهذا يعلم أنّ الصمَم والبكَم والعَمَى للقلب بالذات والحقيقة، وللجوارح بالعرض والتبعية {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46].

وليس المراد نفي العمى الحسّي عن البصر، كيف وقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61] ، وقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} [عبس: 1 - 2] . وإنّما المراد أنّ العمى التامّ في الحقيقة عمى القلب، حتى إنّ عمى البصر بالنسبة إليه كلا عمى، حتّى إنه يصح نفيه بالنسبة إلى كماله وقوته، كما قال - صلى الله عليه وسلم "ليس الشديد بالصُّرَعة، ولكنّ الذي يملك نفسه عند الغضب".

 

الذنوب تحجب القلوب عن ربها

من عقوبات ارتكاب الذنوب والمعاصي أنها حجاب القلب عن الربّ في الدنيا، والحجاب الأكبر يوم القيامة، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 14 - 15].

فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين قلوبهم، فيصلوا إليها، فيَروا ما يُصلِحها ويزكّيها، وما يُفسدها ويُشقيها؟ وأن يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبين ربهم، فتصل القلوب إليه، فتفوز بقربه وكرامته، وتقرَّ به عيناً، وتطيب به نفساً، بل كانت الذنوب حجاباً بينهم وبين قلوبهم، وحجابا بينهم وبين ربّهم وخالقهم.


القلب السليم

{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88 - 89].

والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك، والغِلّ، والحقد، والحسد، والشحّ، والكبر، وحبّ الدنيا والرياسة. فسلِمَ من كلّ آفة تُبعده من الله، وسلِمَ من كلّ شبهة تعارض خبرَه، ومن كلّ شهوة تعارض أمرَه، وسلِمَ من كل إرادة تزاحم مراده، وسلِمَ من كلّ قاطع يقطع عن الله. فهذا القلب السليم في جنّة معجّلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي الجنّة يوم المعاد.

ولا تتمّ له سلامته مطلقًا حتى يسلَم من خمسة أشياء: من شركٍ يناقض التوحيد، وبدعةٍ تخالف السنّة، وشهوةٍ تخالف الأمر، وغفلةٍ تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص. وهذه الخمسة حُجُب عن الله.

 

طلب الهداية من الله

اشتدّت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراطَ المستقيمَ. فليس العبدُ أحوجَ منه إلى هذه الدعوة، وليس شيء انفعَ له منها.

فإنّ الصراط المستقيم يتضمّن علوماً وإراداتٍ وأعمالاً وتُروكاً ظاهرةً وباطنةً تجري عليه كلَّ وقت، فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد، وقد لا يعلمها، وقد يكون ما لا يعلمه أكثرَ مما يعلمه، وما يعلمه قد يقدر عليه، وقد لا يقدر عليه، وهو من الصراط المستقيم وإن عجز عنه. وما يقدر عليه قد تريده نفسه، وقد لا تريده كسلاً  وتهاوناً أو لقيام مانعٍ وغير ذلك. وما تريده قد يفعله، وقد لا يفعله. وما يفعله قد يقوم فيه بشروط الإخلاص، وقد لا يقوم. وما يقوم فيه بشروط الإخلاص قد يقوم فيه بكمال المتابعة، وقد لا يقوم. وما يقوم فيه بالمتابعة قد يثبت عليه، وقد يُصرَف قلبُه عنه.

وهذا كله واقعٌ سارٍ في الخلق، فمستقِل ومستكثِر.

وليس في طباع العبد الهدايةُ إلى ذلك، بل متى وُكِلَ إلى طباعه حِيل بينه وبيّن ذلك كله. وهذا هو الإركاس الذي أركسَ الله به المنافقين بذنوبهم، فأعادهم إلى طباعهم، وما خُلِقَتْ عليه نفوسُهم من الجهل والظلم.

والربُّ تبارك وتعالى على صراط مستقيم في قضائه وقدره، ونهيه وأمره فيهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم بفضله ورحمته وجعله الهداية حيث تصلح، ويصرف من يشاء عن صراطه المستقيم بعدله وحكمته لعدم صلاحية المحلّ، وذلك موجَب صراطه المستقيم الذي هو عليه.

 

الشرك بالله في المحبة والتعظيم

الشرك بالله في المحبة والتعظيم أن يحبّ مخلوقًا كما يحبّ الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله. وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 97 - 98].

ومعلوم أنهم ما سوَّوهم به سبحانه في الخلق والرزق والإماتة والإحياء والملك والقدرة، وإنّما سوّوهم به في الحبّ والتأله والخضوع لهم والتذلّل. وهذا غاية الظلم والجهل. فكيف يُسوَّى الترابُ بربّ الأرباب؟ وكيف يسوّى العَبيد بمالك الرِّقاب؟ وكيف يسوّى الفقيرُ بالذات، الضعيفُ بالذات، العاجزُ بالذات، المحتاجُ بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم، بالغنيّ بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التامّ من لوازم ذاته؟

 

الشرك بالله في اللفظ

من الشرك به سبحانه: الشركُ به في اللفظ، كالحلف بغيره، كما رواه الإِمام أحمد وأبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". صححه الحاكم وابن حبان.

ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئتَ، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعَلْتَني لله نِدًّا؟ قل: ما شاء الله وحدَه".

هذا مع أنّ الله قد أثبت للعبد مشيئة، كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} [التكوير: 28] فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسبِ الله وحسبِك، ومالي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنكَ، وهذا من بركَات الله وبركاتك، واللهُ لي في السماء، وأنتَ لي في الأرض، أو يقول: واللهِ وحياةِ فلان، أو يقول: نذرًا لله ولفلان، أو أنا تائب لله ولفلان، أو أرجو الله وفلانًا، ونحو ذلك؟

 

هو وحده الذي يضر وينفع

إن من خصائص الإلهية التفرّدَ بملك الضرّ والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعلُّقَ الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده. فمن علّق ذلك بمخلوق فقد شبّهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ولاموتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فضلاً عن غيره، شبيهاً لمن له الأمر كلُّه.

فأزِمّةُ الأمور كلّها بيديه، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. بل إذا فتح لعبده بابَ رحمة لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد. فمن أقبح التشبيه تشبيهُ هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغنيّ بالذات.

 

قدْرُ الله عند العبد

لم يقدُرْ الله حق قدره من هان عليه أمرُه فعصاه، ونهيُه فارتكبه، وحقُه فضيّعه، وذكرُه فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثرَ عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهمّ عنده من طاعته. فلله الفَضْلةُ من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدَّم في ذلك؛ لأنّه المهمّ عنده. يستخِفّ بنظر الله إليه واطلاعه عليه، وهو في قبضته، وناصيتُه بيده. ويُعظِّم نظرَ المخلوق إليه واطّلاعَه عليه بكلّ قلبه وجوارحه. ويستحيي من الناس، ولا يستحيي من الله. ويخشى الناس، ولا يخشى الله. ويعامل الخلقَ بأفضلِ ما يقدر عليه، وإن عاملَ اللهَ عاملَه بأهونِ ما عنده وأحقرِه، وإن قام في خدمة إلهه من البشر قام بالجدّ والاجتهاد وبذلِ النصيحة، وقد فرغّ له قلبه وجوارحه، وقدّمه عَلى كثير من مصالحه، حتى إذا قام في حقّ ربّه -إن ساعد القدرُ- قام قيامًا لا يرضى مثلَه مخلوق من مخلوق، وبذل له من ماله ما يستحيي أن يواجه به مخلوق لمثله! فهل قدر اللهَ حقَّ قدره من هذا وصفُه؟


الفرق بين المبتدع والعاصي

لما كانت البدع المضِلّة جهلاً بصفات الله وتكذيباً بما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله عناداً وجهلاً  كانت من أكبر الكبائر -إن قصرت عن الكفر- وكانت أحبَّ إلى إبليس من كبار الذنوب، كما قال بعض السلف: البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية؛ لأنّ المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها.

ومعلوم أنّ المذنب إنما ضرره على نفسه، وأما المبتدع فضرره على النوع. وفتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة. والمبتدع قد قعد للناس على صراط الله المستقيم يصدَّهم عنه، والمذنب ليس كذلك. والمبتدع قادح في أوصاف الربّ وكماله، والمذنب ليس كذلك. والمبتدع مناقض لما جاء به الرسول، والعاصي ليس كذلك. والمبتدع يقطع على الناس طريقَ الآخرة، والعاصي بطيء السير بسبب ذنوبه.

 

اللحظات هي رائدة الشهوة

اللحظات هي رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصلُ حفظ الفرج. فمن أطلق بصره أورده موارد الهلَكات. فالنظر أصل عامّة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإنّ النظرة تولّد خطرةً، ثم تولّد الخطرة فكرةً، ثم تولّد الفكرة شهوةً، ثم تولّد الشهوة إرادةً، ثم تقوى فتصير عزيمةً جازمةً، فيقع الفعل، ولا بدّ، ما لم يمنع منه مانع.

 

غض البصر يورث أنساً بالله

غض البصر يورث القلب أنساً بالله وجمعية على الله، فإنّ إطلاق البصر يفرّق القلب، ويشتّته، ويُبعده من الله. وليس على العبد شيء أضرّ من إطلاق البصر، فإنّه يوقع الوحشة بين العبد وبيّن ربه.


غض البصر يسد على الشيطان مدخله

غض البصر يسدّ على الشيطان مدخله إلى القلب، فإنّه يدخل مع النظرة، وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، فيمثّل له حسنَ صورة المنظور إليه، ويزيّنها، ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب.

ثم يَعِدُه، ويمنّيه، ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصّل إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهيب. فمن ذلك اللهيب تلك الأنفاسُ التي يجد فيها وهج النار، وتلك الزفَراتُ والحُرُقاتُ. فإنّ القلب قد أحاطت به النيران من كلّ جانب، فهو  في وسطها كالشاة في وسط التنّور.

 

إطلاق البصر يشتت الإنسان

غض البصر يُفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها، وإطلاقُ البصر يشتّته عن ذلك، ويحول بينه وبينه، فينفرط عليه أموره، ويقع في اتّباع هواه وفي الغفلة عن ذكر ربه. قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28] . وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه.

 

أنواع الخطرات

إذا تزاحمت الخطرات لِتزاحُمِ متعلّقاتها قدّم الأهمَّ الذي يخشى فوته وأخّر الذي ليس بأهمَّ ولا يخاف فوته.

بقي قسمان آخران: أحدهما مهمّ لا يفوت. والثاني غير مهمّ، ولكنه يفوت.

ففي كلّ منهما ما يدعو إلى تقديمه، فهنا يقع التردد والحيرة. فإن قدّم المهمَّ خشي فواتَ ما دونه، وإن قدّم ما دونه فاته الاشتغال به عن المهم. وكذلك يعرض له أمران لا يمكن الجمع بينهما، ولا يحصل أحدهما إلا بتفويت الآخر، فهذا موضع استعمال العقل والفقه والمعرفة. ومن ها هنا ارتفع من ارتفِع، وأنجح من أنجح، وخاب من خاب.

فأكثرُ من ترى ممن يعظِّم عقله ومعرفتَه يُؤثِرِ غيرَ المهمِّ الذي لا يفوت على المهمِّ الذي يفوت. ولا تجد أحدًا يسلَم من ذلك، ولكن مستقِلّ ومستكثِر.

والتحكيم في هذا الباب للقاعدة الكبرى التي عليها مدار الشرع والقدر، وإليها مرجع الخلق والأمر، وهي إيثارُ أكبر المصلحتين وأعلاهما، وإن فأتت المصلحة التي هي دونها، والدخولُ في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها، فيفوّت مصلحة لتحصيل ما هو أكبر منها، ويرتكب مفسدةً لدفع ما هو أعظم منها. فخطرات العاقل وفكَره لا تتجاوز ذلك. وبذلك جاءت الشرائع، ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم إلا على ذلك.

 

أعظم الأفكار وأجلها وأنفعها

أعلى الفِكَر وأجلّها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة. فما كان لله أنواع:

أحدها: الفكرة في آياته المنزلة، وتعقّلها وفهم مراده منها. ولذلك أنزلها الله تعالى، لا لمجرّد تلاوتها، بل التلاوة وسيلة. قال بعض السلف: أُنزِل القرآنُ لِيُعمَل به، فاتخذوا تلاوته عملاً.

الثاني: الفكرة في آياته المشهودة، والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسمائه وصفاته، وحكمته وإحسانه، وبرّه وجوده. وقد حضّ الله سبحانه عباده على التفكر في آياته وتدبّرها وتعقّلها، وذمّ الغافل عن ذلك.

الثالث: الفكرة في آلائه، وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، وسعة رحمته ومغفرته وحلمه. وِهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفةَ الله، ومحبّتَه، وخوفه، ورجاءَه. ودوامُ الفكرة في ذلك مع الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة.

الرابع: الفكرة في عيوب النفس وآفاتها وفي عيوب العمل. وهذه الفكرة عظيمة النفع، وهي بابٌ لكلّ خير، وتأثيرها في كسر النفس الأمّارة. ومتى كُسِرَتْ عاشت النفس المطمئنّة، وانتعشت، وصار الحكم لها، فحيِيَ القلب ودارت كلمته في مملكته، وبثّ أمراءه وجنوده في مصالحه.

الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته، وجمع الهمّ كلّه عليه. فالعارف ابن وقته، فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلُّها. فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت، وإن ضيّعه لم يستدركه أبدًا.

قال الشافعي: رضي الله عنه: صحبتُ الصوفية، فلم أستفد منهم سوى حرفين: أحدهما قولهم: الوقت سيف، فإنْ قطعته، وألّا قطعك. وذكر الكلمة الأخرى.

فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضّنْك في العذاب الأليم، وهو يمرّ أسرع من مرّ السحاب. فما كان من وقته لله وبالله، فهو حياته وعمره. وغير ذلك ليس محسوباً من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم. فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته. وإذا كان العبد، وهو في الصلاة، ليس له إلا ما عقل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله وله.

وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر، فإمّا وساوس شيطانية، وإمّا أماني باطلة وخدع كاذبة، بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والممسوسين والموسوسين.

 

النفس الأمارة والنفس المطمئنة

لقد ركّب الله سبحانه في الإنسان نفساً أمّارةً ونفساً مطمئنّة، وهما متعاديتان، فكلُّ ما خفّ على هذه ثَقُل على هذه، وكلّ ما التذّت به هذه تألّمت به الأخرى.

فليس على النفس الأمّارة أشقُّ من العملِ لله، وإيثارِ رضاه على هواها؛ وليس لها أنفعُ منه. وليس على النفس المطمئنّة أشقُّ من العمل لغير الله، وإجابةِ داعي الهوى؛ وليس عليها أضرُّ منه.

والملَك مع هذه عن يَمنةِ القلب، والشيطان مع تلك عن يَسْرةِ القلب. والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلى أن تستوفي أجلَها من الدنيا. والباطل كلّه يتحيّز مع الشيطان والأمّارة، والحقّ كلّه يتحيّز مع الملَك والمطمئنّة. والحروب دُوَل وسِجال، والنصر مع الصبر. ومن صَبَر، وصابرَ، ورابَطَ، واتّقى الله، فله العاقبة في الدنيا والآخرة. وقد حكم الله حكماً لا يبدّل أبداً أنّ العاقبة للتقوى، والعاقبة للمتقين.


لسان الإنسان دليل إلى معرفة قلبه

إذا أردت أن تستدلّ على ما في القلب، فاستدِلَّ عليه بحركة اللسان، فإنّه يُطلِعُ ما في القلب، شاء صاحبه أم أبى. قال يحيي بن معاذ: القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها. فانظر الرجل حين يتكلّم، فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه: حلو وحامض، وعذب وأجاج، وغير ذلك. ويبين لك طعم قلبه اغترافُ لسانه. أي كما تطعم بلسانك طعمَ ما في القدر من الطعام، فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه، فتذوق ما في قلبه من لسانه، كما تذوق ما في القدر بلسانك.


كثرة الكلام مضرة

أيسرُ حركات الجوارح حركةُ اللسان، وهي أضرُّها على العبد.

 

آفتا اللسان

في اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت.

وقد يكون كلّ منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها. فالساكت عن الحقّ شيطان أخرس عاصٍ لله مُراءٍ مداهنٌ إذا لم يخف على نفسه، والمتكلّم بالباطل شيطان ناطق عاصٍ لله. وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين.

وأهل الوسط -وهم أهل الصراط المستقيم- كفّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه في الآخرة. فلا يرى أحدهم أنّه يتكلّم بكلمة تذهب عليه ضائعةً بلا منفعة، فضلًا عن أن تضرّه في آخرته.

 

حفظ الخطوات

حفظ الخطوات يكون بأن لا يثقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه، فإن لم يكن في خُطاه مزيدُ ثواب، فالقعود عنها خير له. ويمكنه أن يستخرج من كلّ مباح يخطو إليه قربةً ينويها لله، فتقع خطاه قربةً.


من ترك شيئاً لله عوضه خيراً منه

الله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك لله شيئاً عوّضه الله خيراً منه، فإذا غضّ بصره عن محارم الله عوّضه الله بأن يُطلِق نورَ بصيرته عوضًا عن حبسِه بصرَه لله، ويفتحَ عليه باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنّما تُنال ببصيرة القلب.


العزة لله ولرسوله وللمؤمنين

جعل الله سبحانه العزّ قرين طاعته، والذلّ قرين معصيته، فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وقال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139]

ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، وله من العزّ بحسب طاعته. ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه، وله من الذلّ بحسب معصيته.

 

حب الله

المحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب، وأن لا يشرك بينه وبين غيره في محبته. وإذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن يُشرِكَ محِبُّه غيرَه في محبته، ويمقته لذلك، ويُبعده، ولا يُحظيه بقربه، ويعدّه كاذباً في دعوى محبته، مع أنّه ليس أهلاً لصرف قوة المحبة إليه، فكيف بالحبيب الأعلى الذي لا تنبغي المحبة إلا له وحده، وكلّ محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبال؟ ولهذا لا يغفر الله سبحانه أن يشرَك به في هذه المحبة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.


حب ما سوى الله

من أعرض عن محبة الله وذكره والشوق إلى لقائه ابتلاه بمحبة غيره، فيعذّبه بها في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة. فإمّا أن يعذّبه بمحبة الأوثان، أو بمحبة الصُّلبان، أو بمحبة النيران، أو محبة المُرْدان، أو محبة النسوان، أو محبة الأثمان، أو محبة العُشراء والخلاّن، أو محبة ما دون ذلك مما هو في غاية الحقارة والهوان، فالإنسان عبد محبوبه كائنًا ما كان!


 

قد تُعجبك هذه المشاركات

9051747429727671967

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث