
ما المقاصد الكبرى التي تقف وراء آيات القرآن الكريم؟ ما الأصول التي تحاول هذه الآيات أن تؤصلّه فينا وتغرسه في عقولنا وقلوبنا؟
ما الذي يجعل من فاتحة الكتاب أفضل آي القرآن؟ ومن آية الكرسي سيدها؟ وكيف تكون واحدة من أقصر سور القرآن معادلة لثلث القرآن؟
هذه مجموعة من الأسئلة التي لا شك في أنها تشغل بال الكثير منّا، والتي حاول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي أن يُجيب عليها من خلال كتابه "جواهر القرآن ودرره"، والذي يقع (بحسب طبعة دار الهادي، تحقيق الدكتور محمد نجدات المحمد، مدرس الفقه الإسلامي وأصوله في كلية الشريعة جامعة دمشق) في حوالي 212 صفحة.
وهو كتاب قيم ومفيد بيّن فيه الإمام أبو حامد الغزالي منهجه الفريد في تدبر آيات القرآن الكريم، وفهم معانيه، وثم ذكر فيها بعض الآيات التي اعتبرها الإمام جواهر القرآن وهي 763 آية، وكذلك الآيات التي اعتبرها درر القرآن وهي 741 آية، ليتفكر فيها الإنسان ويتدبر.
ولا شكّ في إن فهم المقاصد الكبرى التي تقف وراء آيات الكتاب الحكيم ستساعد الإنسان على تدبر هذه الآيات والعمل بمعانيها بشكل أفضل، ولأجل ذلك أردت مشاركة بعض هذه الأفكار المفيدة من صفحات كتاب جواهر القرآن ودرره لحجة الإسلام أبو حامد الغزالي معكم من خلال هذا المشاركة.
معلومات عن الكتاب
اسم الكتاب: جواهر القرآن ودرره
المؤلف: أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري (450 هـ - 505 هـ ، 1058 م - 1111 م).
نبذة عن الكتاب: هو كتاب بيّن فيه الإمام أبو حامد الغزالي أسرار القرآن الكريم ومقاصده، ووضح فيه منهجه الفريد في تدبر آيات الكتاب الحكيم وفهم معانيه، وهو ليس تفسيراً للقرآن وإنما شرح لبعض علومه وبيان سبب تفضيل بعض آي القرآن على بعضها الآخر، وسرد فيه الإمام أيضاً ما سماه هو بجواهر القرآن وهي الآيات التي مقصدها التعريف بذات الله وصفاته وأفعاله وعددها 763 آية، وسرد أيضاً ما سمّاه بدرر القرآن وهي الآيات التي المقصد منها بيان الطريق المستقيم المؤدي إلى الله سبحانه وتعالى وعددها 741 آية.
سر القرآن ومقصده الأقصى
في البداية بيّن الإمام أبو حامد الغزالي السر الأعظم والمقصد الأقصى من إنزال الله سبحانه وتعالى لهذا الكتاب الحكيم، والتشريع العظيم، على خير الخلق المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ليكون رحمة للعالمين، كما رآه، فقال:
سِرُّ القرآن، ولُبَابُه الأصفى، ومقصدُهُ الأقصى، دعوَةُ العباد إلى الجَبَّار الأعلى، ربِّ الآخرةِ والأولى، خالق السماوات العُلَى، والأرَضين السُفلى، وما بينهما وما تحت الثَّرَى.
فبالقرآن فقط يمكن أن يتعرف الإنسان على رب العالمين الرحمن الرحيم، وليس من كلام البشر وكتبهم، فسبحانه لا يحيطون بشي من علمه إلا بما شاء.
حصد مقاصد القرآن ونفائسه
ثم وضّح الإمام أبو حامد الغزالي الطريقة التي قسّم بها آيات الكتاب العزيز وفقاً لما رآه من مقاصدها، حيث حصر سور القرآن وآياته في ستة أنواع، معتبراً ثلاثة منها السوابق والأصول المُهِمَّة، والثلاثة الأخرى الروادف والتوابع المُغنِية المُتِمَّة.
الثلاثة المهمة
أما الأصول الثلاثة المُهِمَّة فهي كما وضحها كالتالي:
أولاً: تعريف المدعو إليه
وهي الآيات التي تُعرِّف العباد بربها وخالقها، وهذه المعرفة بالله سبحانه وتعالى تكون بثلاث معارف، وليست كلها كما يقول الإمام ابو حامد الغزالي على مرتبة واحدة.
فأولها والتي هي أنفسها وأعظمها معرفة ذات الحق تبارك وتعالى، وثانيها والتي تليها في النفاسة والمرتبة فهي معرفة صفات الله جلَّ في عُلاه، وأما الثالثة والأخيرة من حيث الترتيب فهي معرفة أفعاله.
وفي الأسفل نورد ما كتبه الإمام أبو حامد الغزالي عن هذه المعارف الثلاثة التي تشكل الأصل الأهم في مقاصد القرآن ونفائسه.
معرفة ذات الحق تبارك وتعالى
معرفة الذات أضيقها مجالا وأعسرها منالا وأعصاها على الفكر، وأبعدها عن قبول الذكر؛ ولذلك لا يشتمل القرآن منها إلا على تلويحات وإشارات، ويرجع ذكرها إلى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ} (الشورى - الآية 11) وسورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} وإلى التعظيم المطلق كقوله تعالى {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ }(الأنعام - الآيات 100-101).
معرفة الصفات
المجال فيها أفسح، ونطاق النطق فيها أوسع، ولذلك كثرت الآيات المشتملة على ذكر العلم والقدرة والحياة، والكلام والحكمة، والسمع والبصر وغيرها.
معرفة الأفعال
فبحرٌ متسعةٌ أكنافه، ولا تنال بالاستقصاء أطرافه، بل ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، وكل ما سواه فعله، لكن القرآن يشتمل على الجلي منها الواقع في عالم الشهادة، كذكر السماوات والكواكب، والأرض والجبال، والشجر والحيوان، والبحار والنبات، وإنزال الماء الفرات، وسائر أسباب النبات والحياة، وهي التي ظهرت للحس.
وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلها على جلالة صانعها ما لم يظهر للحس، بل هو من عالم الملكوت، وهي الملائكة والروحانيات، والروح والقلب أعني العارف بالله تعالى من جملة أجزاء الآدمي، فإنهما أيضا من جملة عالم الغيب والملكوت، وخارج عن عالم الملك والشهادة، ومنها الملائكة الأرضية الموكلة بجنس الإنس، وهي التي سجدت لآدم عليه السلام، ومنها الشياطين المسلطة على جنس الإنس، وهي التي امتنعت عن السجود له، ومنها الملائكة السماوية، وأعلاهم الكروبيون، وهم العاكفون في حظيرة القدس، لا التفات لهم إلى الآدميين، بل لا التفات لهم إلى غير الله تعالى، لاستغراقهم بجمال الحضرة الربوبية وجلالها، فهم قاصرون عليه لحاظهم، يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
واعلم أن أكثر أفعال الله وأشرفها لا يعرفها أكثر الخلق، بل إدراكهم مقصور على عالم الحس والتخييل، وأنهما النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت وهو القشر الأقصى عن اللب الأصفى، ومن لم يجاوز هذه الدرجة فكأنه لم يشاهد من الرمان إلا قشرته، ومن عجائب الإنسان إلا بشرته.
ثانياً: تعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه
وهنا يبين الإمام أبو حامد الغزالي أن الأصل الثاني المهم من الأصول الثلاثة المهمة في مقاصد آيات الكتاب الحكيم هو تعريف العباد بالطريق المستقيم الذي يجب عليهم ملازمته والسير عليه للوصول إلى معرفته جل في علاه والفوز بجنانه والحظوة بالنظر إلى عظمته جل في شأنه. فيقول:
فعمدة الطريق أمران: الملازمة، والمخالفة، الملازمة لذكر الله تعالى، والمخالفة لما يشغل عن الله، وهذا هو السفر إلى الله، وليس في هذا السفر حركة، لا من جانب المسافر، ولا من جانب المسافر إليه، فإنهما معا، أوَمَا سمعت قوله تعالى وهو أصدق القائلين {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} (سورة ق - الآية 16)؟بل مثَلُ الطالب والمطلوب مثل صورة حاضرة مع مرآة، ولكن ليست تتجلى في المرآة لصدأ في وجه المرآة، فمتى صقلتها تجلت فيه الصورة، لا بارتحال الصورة إلى المرآة، ولا بحركة المرآة إلى الصورة، ولكن بزوال الحجاب، فإن الله تعالى متجل بذاته لا يختفي، إذ يستحيل اختفاء النور، وبالنور يظهر كل خفاء، والله نور السماوات والأرض، وإنما خفاء النور عن الحدقة لأحد أمرين: إما لكدورة في الحدقة، وإما لضعف فيها، إذ لا تطيق احتمال النور العظيم الباهر، كما لا يطيق نور الشمس أبصار الخفافيش، فما عليك إلا أن تُنَقي عن عين القلب كدورته، وتقوي حدقته، فإذا هو فيه كالصورة في المرآة.
ثالثاً: تعريف الحال عند الوصول إليه
وهو ثالث الأصول المهمة في مقاصد آيات الكتاب كما بينها الإمام أبو حامد الغزالي، وهو كما يقول الإمام:
يشتمل على ذكر الروح والنعيم الذي يلقاه الواصلون، والعبارة الجامعة لأنواع روحها الجنة، وأعلاها لذة النظر إلى الله تعالى، ويشتمل [أيضا] على ذكر الخزي والعذاب الذي يلقاه المحجوبون عنه بإهمال السلوك، والعبارة الجامعة لأصناف آلامها الجحيم، وأشدها ألما ألم الحجاب والإبعاد، أعاذنا الله منه، ولذلك قدمه في قوله تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} (سورة المطففين - الآيات 15-16) . ويشتمل أيضا على ذكر مقدمات أحوال الفريقين وعنها يُعَبَر بالحشر والنشر والحساب والميزان والصراط، ولها ظواهر جلية تجري مجرى الغذاء لعموم الخلق، ولها أسرار غامضة تجري مجرى الحياة لخصوص الخلق، وثلث آيات القرآن وسوره يرجع إلى تفصيل ذلك.
الثلاثة المُغْنِية المُتِمَّة
وبعد هذه الأصول الثلاثة المهمة التي تعد أهم أصول آيات الكتاب الحكيم، ذكر الإمام أبو حامد الغزالي ثلاث أصول ومقاصد أخرى لآيات الكتاب الحكيم واعتبرها المغنية المتمة وهي كما ذكرها الإمام في كتابه كما يلي:
أولاً: أحوال السالكين والناكبين
وهي آيات القرآن الكريم التي تركز على التعريف بأحوال المجيبين للدعوة والسالكين لطريقه، ولطائف صنع الله جل وعلاه فيهم وفضائله ونعمه عليهم، والتي السر من ورائها والمقصود منها هو تشويق العباد وترغيبهم.
وكذلك الآيات التي تُعرِّف بأحوال الناكبين والناكلين عن الإجابة، والمصرين على الكفر والشرك والنفاق وكيفية قمع الله لهم وتنكيله جل في علاه بهم، والتي سرها ومقصودها هو الاعتبار والترهيب.
ويوضح الإمام أبو حامد الغزالي من يكون السالكين والناكبين في القرآن الكريم في كتاب جواهر القرآن ودرره كالتالي:
أما أحوال السالكين: فهي قصص الأنبياء والأولياء، كقصة آدم ونوح، وإبراهيم وموسى وهارون، وزكريا ويحيى، وعيسى ومريم، وداود وسليمان، ويونس ولوط، وإدريس والخضر، وشعيب وإلياس، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وجبريل وميكائيل والملائكة وغيرهم.وأما أحوال الجاحدين والناكبين: فهي كقصص نمرود وفرعون، وعاد وقوم لوط، وقوم تبع، وأصحاب الأيكة، وكفار مكة، وعبدة الأوثان، وإبليس والشياطين وغيرهم.
ثانياً: في محاجة الكفار ومجادلتهم وإيضاح مخازيهم بالبرهان الواضح
وهذا أيضاً مقصد عدد كبير من آيات القرآن الكريم ألا وهو بيان حكاية أحوال الجاحدين، وكشف فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمحاجة على الحق، والرد على شكوكهم وشبهاتهم التي يثيرونها بحق الله ونبيه وكتابه واليوم الآخر.
وسر هذه الآيات ومقصودها فضح الباطل والتنفير منه وإيضاح الحق وتثبيته والدعوة إليه. وبين الإمام أبو حامد الغزالي أن هذا المقصد بدوره يكون في ثلاث أنواع:
أحدها: ذكر الله تعالى بما لا يليق به، من أن الملائكة بناته وأن له ولدا وشريكا، وأنه ثالث ثلاثة.والثاني: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر وكاهن وكذاب، وإنكار نبوته، وأنه بشر كسائر الخلق فلا يستحق أن يتبع.
وثالثها: إنكار اليوم الآخر، وجحد البعث والنشور، والجنة والنار، وإنكار عاقبة الطاعة والمعصية.
ثالثاً: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأهبة والاستعداد
والمقصود بها آيات الأحكام والتشريع، والتي تشكل جزء كبير كذلك من آيات القرآن الكريم، والتي بها ينتظم أمر الدنيا لتُعِين المسلم على السير في طريق الفلاح في الآخرة.
ومما كتبه الإمام أبو حامد الغزالي عنه كان كالتالي:
أن الدنيا منزل من منازل السائرين إلى الله تعالى، والبدن مركب، فمن ذهُل عن تدبير المنزل والمركب لم يتم سفره، وما لم ينتظم أمر المعاش في الدنيا لا يتم أمر التبتل والانقطاع إلى الله تعالى الذي هو السلوك، ولا يتم ذلك حتى يبقى بدنه سالما ونسله دائما، ويتم كلاهما بأسباب الحفظ لوجودهما وأسباب الدفع لمفسداتهما ومهلكاتهما.وأما أسباب الحفظ لوجودهما: فالأكل والشرب وذلك لبقاء البدن، والمناكحة وذلك لبقاء النسل.
ولو ترك الأمر فيه مهملا من غير تعريف قانون في الاختصاصات لتهاونوا وتقاتلوا، وشغلهم ذلك عن سلوك الطريق، بل أفضى بهم إلى الهلاك. فشرحَ القرآن قانون الاختصاص بالأموال في آيات المبايعات والربويات، والمداينات، وقسم المواريث، ومواجب النفقات، وقسمة الغنائم والصدقات، والمناكحات، والعتق والكتابة والاسترقاق والسبي. وعرف كيفية ذلك التخصيص عند الاتهام بالإقراريات وبالأيمان والشهادات.
وأما الاختصاص بالإناث فقد بينته آيات النكاح والطلاق والرجعة والعدة، والخلع والصداق والإيلاء والظهار واللعان، وآيات محرمات النسب والرضاع والمصاهرات.
وأما أسباب الدفع لمفسداتهما: فهي العقوبات الزاجرة عنها، كقتال الكفار وأهل البغي والحث عليه، والحدود والغرامات والتعزيرات، والكفارات والديات والقصاص.
وهكذا بجمع الأقسام الستة الرئيسية مع شعبها المقصودة في سلك واحد أصبحت عشرة أنواع على الشكل التالي:
- ذكر الذات
- ذكر الصفات
- ذكر الأفعال
- ذكر المعاد
- ذكر الصراط المستقيم جانب التزكية
- ذكر الصراط المستقيم جانب التحلية
- ذكر أحوال الأولياء
- ذكر أحوال الأعداء
- ذكر محاجة الكفار
- ذكر حدود الأحكام
لماذا فاتحة الكتاب أفضل سور القرآن
استناداً إلى المقاصد التي بينها الإمام أبو حامد الغزالي والتي ذكرناها في الأعلى حاول الإمام أن يوضح لنا السبب الذي جعل من فاتحة الكتاب أفضل سور القرآن وأعظمها، وذلك وفق ما ورد في أحاديث كثيرة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له، فنزل ونزل رجلٌ إلى جانبه، فالتفت إليه فقال: ألا أخبرُكَ بأفضل القرآن؟ قال: فتلا عليه الحمدلله رب العالمين.فيقول الإمام أبو حامد الغزالي في هذا:
الراوي: أنس بن مالك - المحدث: الوادعي - المصدر: الصحيح المسند - الصفحة أو الرقم: 43 - خلاصة حكم المحدث: صحيح
إذا ما تفكرنا في آيات سورة القاتحة ومقاصدها نجد إنها على إيجازها وقصرها مشتملة على ثمانية مناهج من العشرة، وهذا ما لا يتوفر في غيرها من السور، والتي وإن توفرت فيها فيستحيل أن تكون بهذا الإيجاز والقصر.(1) فقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} : نبأ عن الذات.
(2) وقوله {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}: نبأ عن صفة من صفات خاصة، وخاصيتها أنها تستدعي سائر الصفات من العلم والقدرة وغيرهما ثم تتعلق بالخلق، وهم المرحومون، تعلقاً يؤنسهم به، ويشوقهم إليه، ويرغبهم في طاعته، لا كوصف الغضب، لو ذكره بدلاً عن الرحمة فإن ذلك يحزن ويخوف، ويقبض القلب ولا يشرحه.
(3) وقوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : يشتمل على شيئين:
أحدهما: أصل الحمد وهو الشكر، وذلك أول الصراط المستقيم، وكأنه شطره، فإن الإيمان العملي نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، وفضل الشكر على الصبر كفضل الرحمة على الغضب، فإنّ هذا يصدر عن الارتياج وهزة الشوق وروح المحبة، وأما الصبر على قضاء الله فيصدر عن الخوف والرهبة ولا يخلو عن الكرب والضيق، وسلوك الصراط المستقيم إلى الله تعالى بطريق المحبة، وأعمالها أفضل كثيرا من سلوك طريق الخوف.
والثاني: قوله تعالى {رب العالمين} إشارة إلى الأفعال كلها، وإضافتها إليه بأوجز لفظ وأتمه إحاطة بأصناف الأفعال لفظ رب العالمين، أفضل النسبة [من] الفعل إليه نسبة الربوبية، فإن ذلك أتم وأكمل في التعظيم من قولك أعلى العالمين وخالق العالمين.
(4) وقوله ثانيا: {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} إشارة إلى الصفة مرة أخرى، ولا تظن أنه مكرر، فلا تكرر في القرآن، إذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة؛ وذكر "الرحمة" بعد ذكر العالمين وقبل ذكر "مالك يوم الدين" ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفضيل مجاري الرحمة:
إحداهما: تلتفت إلى خلق رب العالمين: فإنه خلق كل واحد منهم على أكمل أنواعه وأفضلها، وآتاه كل ما يحتاج إليه.
وثانيها: تعلقها بقوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : فيشير إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالمُلكِ المؤبد في مقابلة كلمة وعبادة.
والمقصود أنه لا مكرر في القرآن، فإن رأيت شيئا مكررا من حيث الظاهر، فانظر في سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة في إعادته.
(5) وأما قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : فإشارة إلى الآخرة في المعاد، وهو أحد الأقسام من الأصول، مع الإشارة إلى معنى الملك والملك، وذلك من صفات الجلال.
(6) وقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: يشتمل على ركنين عظيمين:
أحدهما: العبادة مع الإخلاص بالاضافة إليه خاصة، وذلك هو روح الصراط المستقيم
والثاني: اعتقاد أنه لا يستحق العبادة سواه، وهو لُباب عقيدة التوحيد، وذلك بالتبري عن الحول والقوة، ومعرفة أن الله منفرد بالأفعال كلها، وأن العبد لا يستقل بنفسه دون معونته؛ فقوله {إياك نعبد} إشارة إلى تحلية النفس بالعبادة والإخلاص، وقوله {وإياك نستعين} إشارة إلى تزكيتها عن الشرك والالتفات إلى الحول والقوة.
وقد ذكرنا أن مدار سلوك الصراط المستقيم على قسمين: أحدهما: التزكية بنفي ما لا ينبغي، والثاني: التحلية بتحصيل ما ينبغي؛ وقد اشتمل عليهما كلمتان من جملة الفاتحة.
(7) وقوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} سؤال ودعاء، وهو مخ العبادة، وهو تنبيه على حاجة الإنسان إلى التضرع والابتهال إلى الله تعالى، وهو روح العبودية، وتنبيه على أن أهم حاجاته الهداية إلى الصراط المستقيم، إذ به السلوك إلى الله تعالى كما سبق ذكره.
(8) وأما قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}: فهو تذكير بنعمته على أوليائه، ونقمته وغضبه على أعدائه، لتستثير الرغبة والرهبة من صميم الفؤاد. وقد ذكرنا أن ذكر قصص الأنبياء والأعداء قسمان من أقسام القرآن عظيمان.
وقد اشتملت الفاتحة من الأقسام العشرة على ثمانية أقسام:
(1) الذات (2) والصفات (3) والأفعال (4) وذكر المعاد (5-6) والصراط المستقيم بجميع طرفيه أعني التزكية والتحلية (7) وذكر نعمة الأولياء (8) وغضب الأعداء. ولم يخرج منه إلا قسمان: (أ) محاجة الكفار، (ب) وأحكام الفقهاء، وهما الفنان اللذان يتشعب منهما علم الكلام وعلم الفقه. وبهذا يتبين أنهما واقعان في الصنف الأخير من مراتب علوم الدين، وإنما قدمهما حب المال والجاه فقط.
في كون آية الكرسي سيدةُ آي القرآن
وبنفس الأسلوب والمنهج الذي بين به الإمام أبو حامد الغزالي السبب الذي جعل من سورة الفاتحة أفضل سور القرآن الكريم، بين كيفية كون آية الكرسي هي سيدة آي القرآن الكريم.
ويبدو أن الإمام أبو حامد الغزالي استند في قوله سيدة آي القرآن على بعض الأحاديث التي وردت عن البني صلى الله عليه وسلم وكلها كانت وفق ما بحثت ووجدت في موقع الدرر السنية ذو حكم ضعيف، مثل:
"سورةُ البقرةِ فيها آيةٌ سيدةُ آيِ القرآنِ لا تُقرأُ في بيتٍ وفيهِ شيطانٌ إلَّا خرجَ منهُ آيةُ الكرسيِّ"الراوي: أبو هريرة - المحدث: الألباني - المصدر: ضعيف الترغيب - الصفحة أو الرقم: 879 - خلاصة حكم المحدث: ضعيف -رسالة خطأ-
"إنَّ لكلِّ شىءٍ سَنَامًا ، و سَنَامُ القران سورة البقرة ، فيها آيةٌ سيدةُ آيِ القرآنِ ، لا تُقْرَأُ في بيتٍ فيه شيطانٌ إلا خَرَج منه : آيةُ الكُرْسِىِّ"الراوي: أبو هريرة - المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الضعيفة - الصفحة أو الرقم: 1348 - خلاصة حكم المحدث: ضعيف -رسالة خطأ-
ولكن وإن ضَعَّف العلماء هذه الأحاديث التي وردت في كون آية الكرسي سيدة آي القرآن الكريم، فإن الأحاديث الواردة في فضل سورة الكرسي كثيرة وهي تبين بأنها أعظم آية في القرآن الكريم، ومنها:
"عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. قالَ: يا أبا المُنْذِرِ أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: {اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هو الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة:255]. قالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وقالَ: واللَّهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِرِ".الراوي: أبي بن كعب - المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 810 - خلاصة حكم المحدث: صحيح -رسالة إيجابية-
ويقول الإمام أبي حامد الغزالي في هذا:
قد ذكرنا لك أن معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته هي المقصد الأقصى من علوم القرآن، وأن سائر الأقسام مرادة له، وهو مراد لنفسه لا لغيره، فهو المتبوع وما عداه التابع، وهي سيدة الاسم المقدم الذي يتوجه إليه وجوه الأتباع وقلوبهم، فيحذون حذوه وينحون نحوه ومقصده، وآية الكرسي تشتمل على ذكر الذات والصفات والأفعال فقط ليس فيها غيرها:فقوله: {اللَّهُ}: إشارة إلى الذات.
وقوله: {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ}: إشارة إلى توحيد الذات.
وقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ}: إشارة إلى صفة الذات وجلاله، فإن معنى القيوم هو الذي يقوم بنفسه ويقوم به غيره، فلا يتعلق قوامه بشيء ويتعلق به قوام كل شيء، وذلك غاية الجلال والعظمة.
وقوله {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ}: تنزيه وتقديس له عما يستحيل عليه من أوصاف الحوادث، والتقديس عما يستحيل أحد أقسام المعرفة، بل هو أوضح أقسامها.
وقوله {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ}: إشارة إلى كلها، وأن جميعها منه مصدرها وإليه مرجعها.
وقوله {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ}: إشارة إلى انفراده بالملك والحكم والأمر، وأن من يملك الشفاعة فإنما يملك بتشريفه إياه والإذن فيه، وهذا نفي للشركة عنه في الملك والأمر.
وقوله {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ}: إشارة إلى صفة العلم وتفضيل بعض المعلومات، والانفراد بالعلم، حتى لا علم لغيره من ذاته، وإن كان لغيره علم فهو من عطائه وهبته، وعلى قدر إرادته ومشيئته.
وقوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ}: إشارة إلى عظمة ملكه وكمال قدرته، وفيه سر لا يحتمل الحال كشفه، فإن معرفة الكرسي ومعرفة صفاته، واتساع السماوات والأرض معرفة شريفة غامضة، ويرتبط بها علوم كثيرة.
وقوله {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ}: إشارة إلى صفات القدرة وكمالها، وتنزيهها عن الضعف والنقصان.
وقوله {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}: إشارة إلى أصلين عظيمين في الصفات، وشرح هذين الوصفين يطول، وهو شرحنا منهما ما يحتمل الشرح في كتاب "المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى" فاطلبه منه.
والآن إذا تأملت جملة هذه المعاني، ثم تلوت جميع آيات القرآن لم تجد جملة هذه المعاني من التوحيد والتقديس وشرح الصفات العلى مجمعة في آية واحدة منها، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سيدة آي القرآن"؛ فإن {شهد الله} ليس فيه إلا التوحيد؛ و {قل هو الله أحد} ليس فيه إلا التوحيد والتقديس؛ و {قل اللهم مالك الملك} ليس فيه إلا الأفعال وكمال القدرة؛ و"الفاتحة" فيها رموز إلى هذه الصفات من غير شرح، وهي مشروحة في آية الكرسي، والذي يقرب منها في جميع المعاني آخر الحشر، وأول الحديد، إذ اشتملا على أسماء وصفات كثيرة، ولكنها آيات لا آية واحدة، وهذه [آية الكرسي] آية واحدة، إذا قابلتها بإحدى تلك الآيات وجدتها أجمع المقاصد، فلذلك تستحق السيادة على الآي. وقال صلى الله عليه وسلم: "هي سيدة الآيات"؛ كيف لا وفيها الحي القيوم، وهو الاسم الأعظم، وتحته سر، ويشهد له ورود الخبر بأن الاسم الأعظم في آية الكرسي، وأول آل عمران، وقوله {وعنت الوجوه للحي القيوم}.
لماذا سورة الإخلاص تعدِلُ ثُلُثَ القرآن
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حق سورة الإخلاص ما يلي:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدِلُ ثُلُثَ القُرآنِ.الراوي: أبو هريرة - المحدث: ابن العربي - المصدر: عارضة الأحوذي - الصفحة أو الرقم: 6/40 - خلاصة حكم المحدث: صحيح -رسالة إيجابية-
وربما يتساءل أحدهم وكيف تعدل ثلث القرآن رغم أنها من أقصر السور في القرآن وآيات القرآن تزيد عن ستة آلاف آية فيقول الإمام أبي حامد الغزالي لمثل هؤلاء:
هذا لقلة معرفتك بحقائق القرآن، ونظرك إلى ظاهر ألفاظه، فتظن أنها تكثر وتعظم بطول الألفاظ وتقصر بقصرها، وذلك كظن من يؤثر الدراهم الكثيرة على الجوهر الواحد، نظرا إلى كثرتها.
فبنفس المنهج والطريقة بين لنا الإمام أبي حامد الغزالي كيف يمكن لسورة تبلغ عدد آياتها أربع آيات وتعد من أقصر سور القرآن أن تعدِلَ ثلث القرآن، فيقول:
أن [سورة] الإخلاص تعدل ثلث القرآن قطعا، وارجع إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرناها في مهمات القرآن، إذ هي: معرفة الله تعالى، ومعرفة الآخرة، ومعرفة الصراط المستقيم، فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة والباقي توابع؛ وسورة الإخلاص تشتمل على واحد من الثلاث، وهو معرفة الله وتوحيده وتقديسه عن مشارك في الجنس والنوع، وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفؤ، ووصفه بالصمد يشعر بأنه الصمد الذي لا مقصد في الوجود للحوائج سواه، نعم ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم، وقد ذكرنا أن أصول مهمات القرآن معرفة الله تعالى ومعرفة الآخرة ومعرفة الصراط المستقيم، فلذلك تعدل ثلث القرآن، أي ثلث الأصول من القرآن كما قال عليه السلام "الحج عرفة" أي هو الأصل والباقي توابع.
الخاتمة
ما ذكرناه هنا يشكل جزء يسير جداً مما ورد في كتاب جواهر القرآن ودرره للإمام أبو حامد الغزالي، وهو لا يغني بأي شكل من الأشكال عن قراءة الكتاب كاملاً وتأمل الآيات التي ذكرها الإمام وتدبر معانيها.