في خضمّ تسارع الحياة وتداخل الثقافات، تأتي المناسبات الدينية كمنارات تضيء لنا الطريق، لا لنستريح عندها فحسب، بل لنعيد شحن إيماننا وتصحيح بوصلة مفاهيمنا. ويأتي يوم عاشوراء، العاشر من شهر الله المحرم، كأحد أبرز هذه المنارات. إنه ليس مجرد يوم صيام لنيل الأجر، وإن كان لذلك فضلًا عظيمًا، بل هو مدرسة عقدية متكاملة، يوم لإعادة تعريف الهوية، وترسيخ مبادئ الولاء، وفهم معنى المسؤولية الفردية.
في هذا المقال، سنغوص في أعماق الدروس المستفادة من هذا اليوم المبارك، وكيف يمكن أن يكون نقطة تحول حقيقية في منهج حياة كل مسلم.

الأسس الروحية والتاريخية ليوم عاشوراء: فضل يتوارثه الأنبياء
قبل الخوض في المفاهيم العقدية العميقة، من الضروري أن نؤسس فهمنا على الأبعاد الروحية والتاريخية لهذا اليوم المبارك.
فضل اليوم والأعمال المشروعة فيه
يتميز يوم عاشوراء بفضل عظيم وعبادات خاصة، أبرزها وأشهرها الصيام. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل صيامه أنه قال: (وصِيامُ يومِ عاشُوراءَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التِي قَبْلَهُ) (رواه مسلم). هذا الفضل العظيم، الذي يعني مغفرة ذنوب سنة كاملة، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيامه، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم
هذا الفضل العظيم، الذي يعني مغفرة ذنوب سنة كاملة، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيامه، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضّله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني شهر رمضان".
لكن العبادة في هذا اليوم لا تقتصر على الصيام. فقد ورد في بعض الآثار ما يشير إلى فضل التوسعة على الأهل والعيال. فعلى الرغم من أن الحديث الوارد في هذا الشأن فيه مقال، فإن معناه صحيح ويتوافق مع روح الشريعة في إدخال السرور على الأهل، وقد عمل به بعض السلف كالإمام أحمد بن حنبل. فالتوسعة على الأهل في يوم نصر وشكر لله هي مظهر من مظاهر الفرح بنعمة الله.
مراتب صيام عاشوراء
- أكمل المراتب: صيام اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر من محرم.
- المرتبة الثانية: صيام اليوم التاسع (تاسوعاء) والعاشر (عاشوراء)، وهي المرتبة التي عزم عليها النبي صلى الله عليه وسلم لتحقيق مخالفة اليهود.
- المرتبة الثالثة: صيام اليوم العاشر منفردًا، وهو جائز مع الكراهة عند بعض العلماء.
إرث الأنبياء: صيام شكر ووحدة رسالة
لم يكن صيام عاشوراء بدعة ابتدعها النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو إحياء لسنّة الأنبياء. ففي مكة، كان النبي يصومه، وعندما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يصومونه، فلما سألهم عن السبب، قالوا: "هذا يوم عظيم، وهو يوم نجى الله فيه موسى وقومه، وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً". هنا، تجلت عظمة النبوة الخاتمة في رد النبي صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم". فصامه وأمر بصيامه.
إنه لم يكن مجرد تقليد، بل كان إعلانًا بأن إرث التوحيد واحد، وأن الأنبياء جميعًا ينتمون إلى مدرسة واحدة. وقد ورد في آثار أخرى أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي رست فيه سفينة نوح على الجودي، فصامه نوح شكرًا لله. إذن، نحن نصوم يومًا عظّمه الأنبياء، يومًا شهد انتصار الحق على الباطل.
الدرس الأول: "الحدود تراب" – رابطة العقيدة فوق كل الانتماءات
هذا هو المفهوم الجذري والأكثر عمقًا الذي يرسخه يوم عاشوراء. إنه يعلمنا أن الحدود الجغرافية والسياسية هي تراب أمام رابطة الإيمان الخالدة. علاقة المسلم بأخيه المسلم تتجاوز كل الانتماءات الأرضية من جنسية أو قومية أو عرق.
الولاء على أساس الدين لا الأرض
قصة صيام عاشوراء هي الدليل الأكبر على ذلك. نحن كمسلمين نصوم شكرًا لله على نجاة نبي الله موسى عليه السلام وقومه، ونحتفل بهلاكه لفرعون وجنوده. وهنا تكمن المفارقة العقدية العظيمة:
- موسى عليه السلام: لم يكن من أرض مصر أصلًا، بل كان من بني إسرائيل، من نسل نبي الله يعقوب.
- فرعون: كان حاكم مصر، وينتمي إليها.
ومع ذلك، فإن ولاءنا كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو لنبي الله موسى، لأن الرابطة التي تجمعنا به هي رابطة الإسلام والعقيدة. وعندما وجد النبي صلى الله عليه وسلم اليهود يصومون هذا اليوم، لم يرفضه، بل قال كلمته الخالدة: "نحن أولى بموسى منكم". هذا يعني أن إرث النبوة والتوحيد هو إرث مشترك لكل المسلمين عبر العصور، وأننا كأمة خاتمة، نحن الورثة الحقيقيون لرسالة كل الأنبياء.
وحدة رسالة الأنبياء
يؤكد هذا اليوم على وحدة الرسالة السماوية. فالأنبياء "إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد". أي أن أصل دينهم، وهو التوحيد والعقيدة، واحد، لكن شرائعهم (الأمهات) اختلفت لتناسب أقوامهم وأزمانهم. لذلك، نحن كأمة محمد صلى الله عليه وسلم، نؤمن بجميع الأنبياء ونعتبرهم جزءًا من تاريخنا الإيماني، مما يجعلنا أولى بهم من أقوامهم الذين حرفوا رسالاتهم.
الدرس الثاني: مخالفة المشركين – التميز في الهوية وصناعة الشخصية
عندما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ورغم موافقته لليهود في أصل صيام هذا اليوم، إلا أنه حرص على إرساء مبدأ عظيم وهو مخالفة المشركين. فعندما قيل له إن اليهود والنصارى يعظمون هذا اليوم، قال: "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ".
هذا الحرص على المخالفة لم يكن مجرد تغيير في شكل العبادة، بل كان ترسيخًا لهوية إسلامية متفردة ومتميزة. فالإسلام جاء ليبني شخصية مسلمة لها سمتها وطابعها الخاص، لا تذوب في هويات الآخرين. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الذوبان فقال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم". و"جحر الضب" مكان ضيق، كريه الرائحة، لا مصلحة في دخوله، وهو ما يشير إلى أن التقليد قد يصل إلى درجة السير وراء الآخرين حتى في سفاسف الأمور وما يضر ولا ينفع.
إن التشبه الظاهري له تأثير عميق على الباطن. فمن تشبه بقوم في لباسهم وهيئتهم وأسلوب حياتهم، أورثه ذلك محبة ومودة لهم في قلبه، وهذا ما حذر منه الشرع.
الدرس الثالث: لا "عبدٌ مأمور" – المسؤولية الفردية أمام الله
من الدروس العقدية الهامة التي نستقيها من قصة هلاك فرعون وجنوده، هو إلغاء مبدأ "العبد المأمور" عندما يتعلق الأمر بمعصية الله. القرآن الكريم لم يذكر هلاك فرعون وهامان فقط، بل أضاف إليهما جنودهما: "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ" (القصص: 8).
هذا يعني أن كل جندي كان يأتمر بأمر فرعون في الظلم والبطش كان مسؤولًا عن أفعاله، ولم تشفع له طاعته للقائد. لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. هذا المبدأ يجب أن يكون حاضرًا في حياة كل مسلم. فلا يمكن التذرع بأوامر مدير في العمل، أو ضغط الأهل، أو أي سلطة كانت، لارتكاب ما حرم الله. فكل إنسان سيحاسب على أفعاله فردًا.
لكن هذا المبدأ أيضًا لا بد أن يُفهم بحكمة وتوازن. فليس معنى هذا أن يعيش الشاب المتدين في صراع دائم مع أهله، أو أن يستدعي وصف "الغربة" ليكون فظًا غليظًا معهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم، رغم حرصه على مخالفة المشركين، كان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر فيه بشيء، تأليفًا لقلوبهم. والحكمة تقتضي أن يفرق المسلم بين ما هو من أصول الدين وما هو من فروعه، وبين ما هو واجب وما هو مستحب، وأن يتعامل بذكاء ورفق في دعوته لمن حوله.
خاتمة: عاشوراء.. يوم لتغيير المفاهيم نحو الأفضل
يوم عاشوراء، إذن، ليس مجرد يوم للصيام، بل هو فرصة لتصحيح المسار الفكري والعقدي. إنه يوم لتغيير المفاهيم نحو فهم أعمق للإسلام كدين شامل يحدد هويتنا، ويرسم حدود ولائنا، ويفرض علينا المسؤولية الفردية. بتطبيق هذه الدروس، يمكن للمسلم أن يعيش حياة متوازنة، متميزة بهويته الإسلامية، وواعية لمسؤولياتها، ومحبة لمن حولها، دون غلو أو إفراط. فالعقيدة الصحيحة لا تدعو إلى العزلة أو الشدة غير المبررة، بل إلى الوضوح في المبادئ والمرونة في التعامل، تحقيقاً لخير الدنيا والآخرة.
المصدر: المشاركة هذه مقتبسة من محاضرة بعنوان "عاشوراء | تغيير المفاهيم" للشيخ "أمجد سمير" على قناته في اليوتيوب.